فى عهد الإمبراطوريات الاستعمارية السافرة كانت الدولة المستعمِرة تعين حكام مستعمراتها عياناً جهاراً، وكان بقاؤهم فى الحكم يتطلب السمع والطاعة لمن عيّنوهم. وهكذا كانت حكومة بريطانيا العظمى فى عصور مضت تُعيّن ملوك مصر وتخلعهم على هواها لخدمة مصالحها. لكن بعد انكسار الإمبراطورية البريطانية ووراثة الولاياتالمتحدة لتاج الهيمنة الإمبراطورية تبنت تلك الأخيرة نمط هيمنة أكثر نعومة، يقوم فى الأساس على إقامة نسق للاقتصاد السياسى الرأسمالى الاستغلالى التابع لمراكز الرأسمالية العالمية فى الغرب ودعم حكام محليين يتولون بالنيابة حماية مصالحها فى المنطقة من خلال حكم تسلطى يهدر الحقوق والحريات. غير أن حقبة ثورة 1952، والتى لم تدم أطول من عقدين، مثلت تحولاً جوهرياً فى مسار الخضوع هذا، وأظهرت نزوعاً نحو الاستقلال الوطنى تبلور فى الإصرار على تنويع مصادر سلاح الجيش المصرى، وتشييد السد العالى على الرغم من انسحاب الولاياتالمتحدة والبنك الدولى من تمويل المشروع. ودعم جمال عبدالناصر الاستقلال الوطنى بتأميم قناة السويس ومساعدة حركات التحرر من الاستعمار فى العالم والمساهمة فى بناء كتلة عدم الانحياز. وكما عاقب الغرب الاستعمارى محمد على على توسع الدولة المصرية وبناء قوتها بكسر شوكته من خلال تحطيم الأسطول المصرى فى موقعة نافارين فى العام 1840، تحالفت الدول الاستعمارية الغربية الرئيسية مع أداة الاستعمار فى المنطقة (إسرائيل) لكسر القوة البازغة فى المنطقة العربية بشن العدوان الثلاثى الآثم فى 1956 ثم حرب 1967 الغادرة، التى ضاعف من جسامة تبعاتها الكارثية أخطاء النظام الحاكم وقتها. ولكن لم يلق جمال ربه، بعد سنوات قلائل، إلا بعد أن بدأ إعادة بناء القوات المسلحة المصرية ودشن حرب الاستنزاف المجيدة، ما مهد لعبور 1973 العظيم. بعد ذلك تتالى على حكم مصر رؤساء افتقدوا الزعامة التاريخية الملهمة التى حظى بها عبدالناصر، ولم يعوضوها بشرعية شعبية ديمقراطية، فدشنوا مسلسل التبعية للغرب، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، حتى تحول إلى منهج فى سياسة الحكام فى مصر، يستمدون فيه شرعيتهم وأمان نظم حكمهم الاستبدادية من مساندة الإدارة الأمريكية وحلفائها لهم. وفى المقابل يتوجب عليهم حماية ربيبتها إسرائيل ورعاية مصالح دول الغرب المهيمنة على الصعيد الدولى فى المنطقة العربية. لى صديق أكبر سناً اشتهر، عبر سنين خبرة طويلة فى المحافل الدبلوماسية العربية، بصكّ العبارات القصيرة الرنانة، يقول عن معاملة الأمريكان لعملائهم: «يمصونهم كأعواد القصب وعندما لا تبقى بهم حلاوة يرمونهم فى الزبالة»، وكم صدق. ومما يُطمئن الغرب أنه عندما يُلقى بواحد إلى الزبالة دائماً يكون هناك آخرون مستعدون، ربما من أقرب الأقربين للمصاصة الملقاة. لذلك استقرت سياسة الاستعمال الأمريكية على أن تكون لها إصبع فى كل كعكة كما يقول المثل الغربى، بأن تبقى على صلة بجميع القوى المتنافسة على الساحة السياسية فى أى بلد مهم أو منطقة حيوية لمصالحها فى العالم. ومصر، لا ريب، كونها قلب الوطن العربى، مثل هذا البلد بامتياز. محمد أنور السادات، على الرغم من حنكته السياسية، أدخل مصر فى عصر التبعية للغرب من بوابة الاقتصاد السياسى التابع للرأسمالية العالمية. محمد حسنى مبارك كان مادة خام رائعة لوكيل مصالح مثالى للمستعملين فى الغرب، وواضح، من شهادته على نفسه، أنه كان مؤهلاً نفسياً وسياسياً بجدارة. تعلم الولد جمال «الشحاذة» من أبيه فسبقه على أبواب واشنطون. ولعل القارئ يتذكر أن الطاغية المخلوع لم يكن يُستدعى إلى واشنطن كثيراً فى سنوات حكمه الأخيرة، ولكن المحروس كان يواظب على الزيارة، ولو دخل البيت البيض من الأبواب الخلفية لمقابة رؤسائه المستقبليين حال تسلق عرش مصر. وعلينا أن نتذكر الآن أن الإدارة الأمريكية كانت فى الحقبة ذاتها تجرى اتصالات مباشرة، رتّب لها وسيط أمريكى من أصل مصرى مع قيادات الإخوان، وعلى الرغم من أن قيادات الإخوان المخادعين كانوا يتنطعون علناً بعداء الأمريكان وربيبتهم إسرائيل وبالمرة اليهود جميعاً، وينعتونهم بالقردة والخنازير، لاجتلاب الاستحسان الشعبى، إلا أنهم كانوا يقدمون، فى الاتصالات السرية وراء الأبواب المغلقة، جميع التطمينات المطلوبة أمريكياً بحماية أمن إسرائيل ومصالح الولاياتالمتحدة فى المنطقة العربية. وقد تصاعدت وتيرة عروضهم التطمينية مع وصولهم للسلطة فأوفدوا إلى العاصمة واشنطن من ينقل رسالة تعهد بأن الإخوان فى السلطة سيمنعون أى محاولة لتعديل اتفاقية كامب ديفيد ولو بعرضها عى استفتاء شعبى حارمين الشعب من حقه الأصيل فى مراجعة اتفاقية لم يوافق عليها أصلاً ولم يحترم الطرف الآخر التزاماته فيها. ولذلك بعد قيام الثورة الشعبية العظيمة فى يناير 2011 انصب جهد الإدارة الأمريكية على دعم تيار اليمين المتأسلم من الإخوان والسلفيين ليكتسحوا الساحة السياسية. ولم يتوقف الدعم عند الأموال الضخمة من أدوات الولاياتالمتحدة من جمعيات المجتمع المدنى العاملة فى مصر (كما تكشّف عن قضية التمويل الأجنبى) ومن قطر. وبعد فوز الإخوان فى الانتخابات النيابية والرئاسية، أرسلت واشنطن امرأتها المتمرسة فى التعامل مع الحركات الإسلامية فى باكستان لتكون سفيرتها لدى حكم اليمين المتأسلم. ومنذ وصولها لم تنقطع لقاءاتها مع قادة الإخوان، خاصة المرشد ونائبه، بينما نأت بنفسها عن وزارة الخارجية المصرية، فالمرأة كانت تعلم من هو صانع القرار ومن أين تؤكل الكتف. وعندما قارب زلزال 30 يونيو ذهبت السفيرة إلى مركز الوسيط المشار إليه فى الاتصلات السرية بين الإخوان والأمريكان، وألقت خطبة اعتبرها بعض قادة الإخوان فتحاً فى الوطنية المصرية، مطالبة المصريين بالاحتكام إلى صندوق الانتخاب عندما يحين موعده والتغاضى عن التظاهرات المخططة. وعندما انفصمت عرى تحالف الإخوان والسلفيين بسبب مغالاة الإخوان فى التمكن من جميع مفاصل الدولة والمجتمع بما لم يترك للسلفيين ما يعتبرونه نصيباً عادلاً من الغنيمة، شقوا الصف وتحولوا إلى معارضة داخل التيار الحاكم. وعندما تراءى لهم إمكان وراثة الحكم من الإخوان، سعوا للمؤهلات الأمريكية، فطلبوا من الوسيط نفسه إقامة صلة مع الإدارة الأمريكية وشكلوا وفداً لزيارة العاصمة الأمريكية لاجتياز الاختبار والحصول على المؤهل، والثمن معروف، وكانوا على استعداد لدفعه، بل هم كانوا دفعوا بعضه مقدماً بإعلانات متكررة مفادها حرصهم على السلام مع إسرائيل، وكان وراءهم جهات الإفتاء غير الرسمية التى تشكلت خصيصاً لمثل هذه الأغراض برعاية إسرائيل وقطر. ولم يكن الإخوان ليسمحوا بهذه المنافسة «غير الشريفة» فسافر رجل الإخوان القوى شخصياً إلى واشنطن ووفد السلفيين فى الولاياتالمتحدة ليحبط سعيهم ما أمكن. ولكن يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. وقع زلزال 30 يونيو وسقط حكم اليمين المتأسلم فى 3 يوليو وأصاب سفيرة الولاياتالمتحدة الهلع ووقعت الإدارة الأمريكية فى ارتباك استمر بضعة أيام نتيجة لتعدد جهات القرار فى الإدارة الديمقراطية. وظلت سفيرة السوء على معاداتها للشعب المصرى، فنقلت لنا الأنباء أنها اجتمعت بالسلفيين وطلبت منهم عرقلة تشكيل الوزارة المؤقتة لإعطاء مهلة لجحافل دهماء اليمين المتأسلم للهجوم المسرحى على دار الحرس الجمهورى لتقع مذبحة بأيدى الإخوان يقع فيها ضحايا من دهماء الإخوان المغرر بهم، بعضهم بأيدى زملاء لهم، بقصد إحراج الجيش وتسهيل عودة محمد مرسى. ويكفى لتأكيد الاتهام بالعمالة للقوى الغربية، وإلى حد استعدائها على الوطن، وجيشه وشعبه الاستصراخات المتكررة لقيادات الإخوان لقوى أجنبية للعدوان على مصر وجيشها لإعادة محمد مرسى للحكم. ناهيك عن تلك الظاهرة، المضحكة المبكية والمثيرة للسخرية فى آن، التى تحولت فيها لافتات وشعارات اعتصامات اليمين المتأسلم فى ميدانى النهضة وإشارة مرور رابعة العدوية فجأة من اللغة العربية إلى الإنجليزية، وربما ليس من بين المعتصمين واحد يجيد اللغة الإنجليزية، علّ شبكة الجزيرة المنافقة تنقلها إلى منقذيهم المتوهمين. فصل القول، لقد أسقط الشعب المصرى الجبار وكيلين عتيدين للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط فى غضون عامين، وأصبح منصب الوكيل شاغراً ووراءه مطالب، ولكن ستورده سفيرة السوء، وحكم التاريخ على العملاء، مورد التهلكة، كسابقه من التيار نفسه.