كم اشتقت إليك.. وأتمنى أن تعود بى الأيام أربعين يوماً حيث كنت تتنفس ولم تذهب روحك الطاهرة إلى بارئها، ولا توسد جسدُك العفيف الثَرى، لقد ودعتنى بصمت وهدوء بعد أن غمرتنى بحبك ورعايتك وجودك وكرمك.. أربعون يوماً وما زال الحزن يحيط بروحى، فبعد رحيلك أشعر وكأننى هائم فى ملكوت آخر، كأن جسدى يتحرك بلا روح، ففى أيام ما بعد رحيلك علمت معنى كلمة «حزن» وأدركت «ألم الفراق» ورأيت خداع الدنيا خلف قناع بسمتها. يا أبى كم اشتقت إلى النظر فى ملامحك وابتسامتك.. وسماع صوتك وضحكتك والشعور بالدفء بين أحضانك.. أبحث عن عينيك التى تراقبنى وتوجهنى وترشدنى فلم أجدها.. لقد كنت النور والركن الأمين والحصن الحصين بالنسبة لى، رحلت وتركت بصمة شوق فى قلبى لن يمحوها الزمن ولو شاب شعر رأسى، فلقد كنت أكبر النعم من الله علىّ، ولأن النعم لا تدوم رحلت يا والدى. فما زلت يا والدى أناجيك وأحدثُك كل يوم لعلّى أسمعُك أو أراك من جديد وأعلم أن هذا ضرب من ضروب الخيال ولكن «أُصبّر نفسى»، لعلّى أراك فى منامى.. يقولون إن أرواح الموتى والأحياء تتلاقى فى العالم الآخر، وعندما أستيقظ ولم أجدك أضع يدىّ على قلبى لأنه المكان الوحيد الذى أثق بوجودك فيه، أتأملك.. أُشاهدك.. أنصت إليك فى مخيلتى وشريط ذكرياتى معك يمر من أمام عينى وأستحضر كل الشواهد والأيام التى خلت وكأنك معى تحدثنى فأبتسم ابتسامة لا إرادية بوجهى الحزين ثم أفيق فيصفعُنى «الواقع» بأنك قد رحلت فتذرف دموع الفراق على وجنتىّ حتى أدعو لك بالرحمة والغفران من الرحيم الرحمن. كنت الصدق الوحيد بعالمى والكُل محض توهم.. أراك فى كل مكان.. فى المنزل.. فى الشارع.. فى المسجد.. فى وجوه أصدقائك وأحبائك فوجهك المبتسم لا يفارقنى أبداً.. ريحتك.. نظارتك.. جريدتك.. طيبُك.. عُكازك.. ملابسك كلٌ على حاله فى غرفتك كأنك بعدت عنهم ولم تفارقهم.. أنت لم تمت يا أبى فذكراك الطيبة حيّة على ألسنة الجميع وسيرتك العطرة يتفوّه بها القريب والبعيد وهذا سر صبرى على «ألم الفراق». هل تعلم يا أبى أن شعور اليُتم مؤلم.. بل مدمر؟.. فعند أول زيارة لى إلى قبرك قررت أن أذهب بمفردى لأُحدثُك عن أشياء كثيرة أكتمها بصدرى وأبوح بها إليك حتى يتسع من ضيقه، تركت «سرادق العزاء» وذهبت إليك حتى تستأنس بى وعندما وقفت أمام قبرك.. ثقُل لسانى عن الكلام.. وتوقفت جوارحى عن الحركة، لا أعلم عن أى شىء أحدثُك، وعن ماذا أتحدث، وبماذا أبدأ؟ فأجهشت بالبكاء حتى استحضرت «كل من عليها فان» فاطمأنت نفسى وبدأت بترتيل ما تيسر من القرآن الكريم لتأنسك فى وحشتك وتنور لك قبرك.. أدعو لك دوماً بالرحمة من الله والغفران فأنت أهلٌ لذلك بإذن الله وأن يحشرك الله مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. ستبقى يا أبى فى ذاكرتى مدى الدهر.. تمنيت يا أبى أن تعود ولو للحظة لأخبرك عما بداخلى.. وأخبرك كم أحبك، وكم كنت نور الحياة بالنسبة إلىّ، وكم أنت غالٍ فى قلبى.. ستبقى يا أبى.. وسيبقى رحيلك وجعاً يمزقنى وهم لا يشعرون.