داخل ورشة عتيقة فى منطقة الأزهر القديمة، توجد خلية نحل.. عمال هنا وهناك، هم الوحيدون فى القاهرة الكبرى وربما فى المنطقة العربية الذين يمتهنون أقدم حرفة فى تاريخ مصر، يستلهمون حماسهم من القدماء المصريين الذين حرصوا على تسجيل وحفظ أحداث الحياة للحياة الأخرى عن طريق تجليد كتبهم ومخطوطاتهم، وعلى الرغم من أن هذه المهنة أوشكت على الاندثار، فإن «الحاج محمد عبدالظاهر» صاحب أتيليه تجليد الكتب لا يقلق على مهنته، فأغلب ما يُجلده يذهب فى النهاية إلى السوق الأوروبية.. ولا عزاء للمصريين. لم يرض أن يكون ترساً فى ماكينة تطمر لمسات الجمال لصناعة يدوية، وحافظ «الحاج محمد عبدالظاهر» على المهنة التى ورثها عن والده: «اشتغلت على نفسى وعينى على السوق.. أشوفه عاوز إيه وأعمله».. حتى وصل إلى العالمية، وخصصت له محلات «لافاييت» الفرنسية و«هارودز» البريطانية أجنحة إلى جوار أرقى التحف والمقتنيات الفنية، بينما الأتيليه الذى يملكه لا يتردد عليه سوى عدد قليل من السائحين والمصريين المهتمين بالثقافة. نصف قرن وأكثر قضاها الحاج محمد عبدالظاهر داخل هذه الورشة منذ طفولته لم يمتهن سواها وبدأ حياته فى ورشة معلمه «الحاج على حجاب» الذى بدأ فى تجليد الكتب عام 1936، وكانت فى ذلك الوقت مهنة رائجة خاصة فى أحياء الأزهر والحسين، التى تعج بالمشايخ وطلاب العلم ومحبى القراءة والاطلاع وغيرهم من المهتمين باقتناء الكتب ومن ثم تجليدها للحفاظ عليها. قديماً كان المثقفون المهتمون بالقراءة يتجهون إلى تجليد الكتب، أما الآن فقد تحولت الورشة التى كانت معنية بتجليد الكتب إلى صناعة ال«نوت بوك» وألبومات الصور والاستكشات، لتلاحق التطور التكنولوجى، مع الحفاظ على طابعها التراثى المكعب بالجلد والورق المذهب، وهو ما يسميه الحاج محمد عبدالظاهر «شغل أفرنجى» وتعجز دول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا عن القيام به. مع اندلاع ثورة يوليو 1952 التى حررت مصر من حكم الملكية، تحرر «الحاج محمد عبدالظاهر» من قيوده هو الآخر وعمل فى تلك الورشة، شرب أصول المهنة حتى أتقنها، لكن الفارق كبير بين أمس واليوم: «زمان كانت الناس بتقرا الكتاب وبعد كده تجلده، دلوقتى الناس بتقرا الكتب وبعد كده ترميها. محدش مهتم إنه يحافظ على الكنز اللى قراه، زمان الكتاب كان ممكن يتباع ب 2000 جنيه، وكان بيتجلد أفرنجى ومُطعم بالزنكوغراف والأوراق المُدهبة، دلوقتى مفيش أسهل من مكنة التصوير». يجلس «الحاج عبدالظاهر» داخل الأتيليه ليرى مردود العمل الذى يقوم به منذ أكثر من نصف قرن، حيث تتراص المجلدات فوق بعضها فى انتظار زبائنها، وخلال أوقات الانتظار يخرج من الأتيليه محاولاً التخلص من همومه وهو ينفث دخان سيجارته. وعن مراحل التجليد يقول: «تخييط ثم قص الأحرف الزائدة ووضع الجلدة الأفرنجية مكانها ثم تطعيمها بالزنكوغراف الذهبى، وبعد ذلك يتم تجليدها بتلك الأنامل الفنية التى تحافظ على طابعها الشرقى»، ويتذكر «الحاج عبدالظاهر»: «ملك بلجيكا كان بيجلد الكتب عندى.. وولية عهد تايلاند.. ده غير جمال الغيطانى، وزمان كان بيجلد عندى علماء وطلبة أزهر، كانوا بيشتروا الكتاب بقرشين صاغ ويجلدوه بنكلة»، ويتابع: «كل زبائنى من المثقفين والفنانين والسفراء وأعضاء السلك الدبلوماسى، وكان هناك دبلوماسى إسبانى يتعامل معنا أثناء عمله فى السفارة الإسبانية فى القاهرة، وبعد سفره غاب أكثر من عام ثم أرسل إلينا طردا كبيرا يحتوى على عشرات الكتب والمجلات العالمية المتخصصة فى فن تجليد الكتب بكل اللغات ومن جميع أنحاء العالم، هدية للورشة ودعماً لرسالتها الفنية». يجلس «الحاج محمد عبدالظاهر» وسط أبنائه الذين علمهم أصول المهنة، يتشاورون ويتكلمون حول المعارض التى سيشاركون فيها وكل أمنياتهم أن تسير عجلة الإنتاج التى توقفت وأوقفت حال مهنتهم، ينتظرون مواطنا مصريا يحتفظ بأصالته المعهودة ليبتاع أحد مجلداته التى تراكمت عليها الأتربة، بينما لسان حاله يقول: «عايزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يا زمان».