الأدب الخالد هو الذى لا تنضب -مع الزمن- الكنوز المختبئة بين نصوصه، وهو الذى لا يخلو عند كل قراءة جديدة من معان مختلفة لم يسبق لنا اكتشافها، وكأنه كُتب لعصره ولكل العصور، وأحياناً نرى أنفسنا ونعيد اكتشاف صراعاتنا فى نصوص «دراما» كُتبت قبل ثمانين عاماً، مثل مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» التى كتبها «برتولد بريخت» أعظم كتاب المسرح السياسى فى القرن العشرين، وكأنها كتبت لنا، والأبطال الذين يتحركون بين فصولها أبطال من زماننا، والأحداث التى تترى بين سطورها تبدو وكأنها تقع أمام أعيننا، وفى أماكن ليست غريبة عنا، بل وكأننا مشاركون فيها، منفعلون بها ومحركون لها ومترقبون لمآلاتها وخواتيمها. وثورة 25 يناير هى طفل «بريخت» -فى المسرحية- الحائر بين امرأتين، تتنازعان ملكيته؛ أمه الحقيقية التى خرج من رحمها وشب على صدرها، وأمه المزعومة التى لم تلد ولم ترب ولم تحتضن، لكنها خطفته من حجر أمه الحقيقية، وهى غافلة بنشوة الفرحة بطفلها الوليد، سكرى بخمرة النصر على الحاكم الغشوم. قد لا نجد فى تاريخ الأدب -قديمه وحديثه- صورة مشابهة للنزاع على «ملكية الثورة» أبلغ من تلك الصورة التى أوحت بها لنا مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» لبرتولد بريخت. تروى أن الملك سليمان قضى بشطر طفل إلى شطرين، بعد أن احتكمت إليه امرأتان متنازعتان تدعى كل منهما أنها أمه، فأبت الأم الحقيقية أن يشطر الطفل، وآثرت التنازل عنه، فتبين لسليمان عندئذ أنها الأم الحقيقية وحكم لها باسترداد الطفل وحضانته. وثورة 25 يناير، مع الفارق بين حبكة الدراما وضروراتها وصراعات الواقع ومآلاته، هى الطفل المتنازع عليه بين أم حقيقية شابة ثائرة حرة، كابدت وحدها آلام المخاض وعانت -فى صبر- أوجاع الولادة، وقاومت جبروت الحاكم الطاغية، لم تساوم أو تفرط أو تقايض أو تقبل بأنصاف الحلول، وأبت إلا البقاء فى الميادين المفتوحة تحرس وليدها حتى ينبثق الفجر وينبلج النور ويرحل الحاكم المتربص بالوليد، وأم مزعومة عجوز عاقر محافظة غير ثورية، شوهدت تتلصص خلف أستار المشهد الثورى، متلكئة، متباطئة، مترددة، مهادنة، تقدم -فى انتهازية فجة - رجلاً وتؤخر أخرى، فى موقف المتحفز المنقض نهاز الفرص. ضبطت فى فراش أعوان الحكام الطاغية قبل سقوطه، تخلع -وهى التقية النقية البتول- ملابس عفافها السياسى. ولا تتورع الأم المزعومة أن تتهم الطفل النبيل فى نسبه فهو ابن «فتنة نائمة» لعن الله من أيقظها! ويا للمفارقة فالنص الأصلى لا يخلو من اتهام لطفل «بريخت» فى نسبه. تُرى هل كان هذا الاتهام مقدمة للخلاص منه؟ والاستئثار بميراثه؟! وحتى بعد سقوط رأس الحاكم الغشوم ظلت الأم المزعومة تراود «فلوله» عن نفسها فى صفقة جائرة تفك رقابهم وتترك لهم نصف الثروة المنهوبة، «وتفك» -فى المقابل- بنصف الثروة الباقى! وهى «مقايضات» تبرم فى العادة بين لصوص، «وتسويات» تتم بين «أشباه» أن الأم المزعومة التى قبلت -فى النص الأصلى- نصف طفل مذبوح، لا تأنف أن تقبل من أعدائه نصف ثروته المنهوبة، وحلفاؤها من شهود الزور وشيوخ الفتنة جاهزون بفتاواهم، مستعدون بسيوفهم الصدئة لقطع الرقاب التى أينعت وحان قطاقها. ولا بأس أن تعيد الأم المزعومة إنتاج النظام القديم المستبد، سياساته وآلياته ومؤسساته وقواعد تسييره -وإن كان لا بد- بعض رجاله، بعد أن تخلع عليهم مسحة من تقوى زائفة وورع مصنوع. وبينما يتراص حول الأم المزعومة فرسان الهيكل وجند الرب ومحاكم التفتيش، تبدو الأم الحقيقية واثقة مطمئنة لحكم القاضى الذى سيعيد الطفل المخطوف إلى أمه الثائرة الرؤوم، ويعيد الثورة لصانعيها ولمن لم يقايض بها أو يساوم عليها أو يفرط فيها. ومن المحتم أن القاضى (أزداك)، وهو الشعب، سوف يحكم للأم الثائرة باسترداد طفلها النبيل وحضانته. وسوف نردد خلف المنشد فى مسرحية «بريخت» وهو يجلجل فى فصل الختام: «أنتم يا من سمعتم حكاية دائرة الطباشير، احفظوا حكمة الأقدمين.. إن الحقوق ينبغى أن ترد للذين يقومون عليها خير قيام، فالأطفال للأمهات اللواتى يرعينهم خير رعاية حتى يشبوا ويترعرعوا.. والوادى للذين يحسنون سقيه وزرعه حتى يعطى أطيب الثمر».