انتهى مرسى من خطابه، استقللت التاكسى نحو المنزل، الرطوبة خانقة، تكدس السيارات فى انتظار البنزين يغلق الشارع، يحدثنى السائق متسائلاً: «هو الرئيس فاضله كام خطاب ويرحل؟»، سألته: ليه بتسأل كده، أجاب: مبارك أخدله أربع خطابات، ضحكت، أزالت ضحكتى الحاجز الذى يفصل بيننا، أكمل السائق: «كده إنت فهمت قصدى؟»، قلت نعم، وسألته: إيه رأيك فى الخطاب؟ كان يحرك مؤشر الراديو، أم كلثوم: «فات الميعاد»!!قال السائق: «والله العظيم ما كنت أقصد، المهم يا أستاذ، الست أجابت عن سؤالك». أصوات السائقين تتداخل مع ضوضاء الكلاكسات، «الله يخرب بيته زى ما هو عايز يخرب بيوتنا»، أخرج السائق يده من النافذة ليطلب من سائق آخر كبريتاً لإشعال سيجارة، أشعل سيجارته وأراد أن يرد للسائق الكبريت، مد السائق الآخر يده ملتقطاً العلبة متسائلاً: «هتنزل يوم 30؟»، رد سائقنا: «مين مش هينزل»! رائحة البنزين، تختلط بحلقات الدخان، شعرت بالاختناق، حاسبت التاكسى، وقررت أن أكمل الذهاب للمنزل سيراً على الأقدام، الشباب يسيرون جماعات، يهتفون: «ارحل.. ارحل»، سألت الشباب إلى أين؟ ردوا: إلى التحرير، عبرت الشارع إلى الجهة الأخرى، نفس الهتاف، عاودت سؤالى لشباب الضفة الأخرى: إلى أين؟ أجابوا: إلى وزارة الدفاع، تأملت المشهد، الجو خانق، السيارات تتكدس، تختلط الشتائم بالهتافات، اقتربت من المقهى، جلست، قهقهات رواد المقهى تطغى على أصوات إبراهيم عيسى وعبدالحليم قنديل فى برنامج «هنا القاهرة»، أحد الرواد يصرخ: «هدوء يا جماعة، عايزين نسمع تحليلات الأساتذة على الخطاب»، يلقى زميله بزهر الطاولة: «شيش جهار»، يلخبط آخر الدومينو، وهو يقول: «محللين إيه يا حاج خلاص قفلت»، طلبت من النادل «كوب ليمون»، وصل إلى أسماعى حديث من خلفى: «ليه أول رسالة للأقباط»؟ ضحك آخر وهو يقول: «بيسمينا شركاء الوطن»، يرد الآخر الأحسن كان سمانا «شهداء الوطن»!! تذكرت (60 شهيداً و914 جريحاً قبطياً منذ أن حصل الإخوان على الأغلبية فى البرلمان، والاعتداء على 24 كنيسة، وتهجير 124 أسرة تهجيراً قسرياً لم يعد منهم 43 أسرة حتى الآن) النادل ينقلنا إلى المصارعة الحرة على شاشة التليفزيون، ينتهره أحد الرواد قائلاً: «هى ناقصة عنف»، يرد النادل: «تعبت معاكم لا سياسة عجباكم ولا مصارعة عايزين إيه؟». يرد أحدهم: «عايزين ننزل يوم 30 ومرسى يرحل»، ارتشفت ما تبقى من ليمون، جلس بجوارى المعلم صاحب المقهى، سألنى: «هيحصل إيه يوم 30؟، قلت: «كل خير»، نظر المعلم إلى السماء، متمتماً: «يا رب تكون حانت الساعة للخلاص من الجماعة»، شعرت برغبة حقيقية فى البكاء!!لست أدرى لماذا؟ لم أعد أسمع أحداً، تركت الأمر لذاكرتى، خطاب السادات: «كان يهاجم أسماء بعينها، شنودة»، نفس الأداء مرسى، أسماء كثيرة من قضاة، صحفيين، كتاب، رجال أعمال، إعلاميين، إلخ، انتهى السادات كرئيس بعد ذلك الخطاب، وكانت كلماته هى التى أنهت حياته قبل رصاصات الإسلامبولى، الأمر الذى دعا الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يكتب فى «خريف الغضب» عن السادات، قائلاً: «مات حين مات»، د. مرسى يعيش واقعاً افتراضياً، حتى إن حالة «الصالة المغطاة»، حالة ليست رمزية، إنها نموذج للقوقعة التى يحبس د. مرسى وجماعته أنفسهم بها، لا يرون ولا يسمعون أحداً خارجها، إنها أشبه بالمحمية الإخوانية التى صنعها الإخوان لأنفسهم حتى لا تصل إليهم أصوات الشعب المصرى، وحتى إذا وصلت إليهم.. فهناك مؤامرة كبرى عليهم.. وبالطبع المستهدف من وجهة نظرهم هو الإسلام!!، هم «الأطهار» والباقون «الأنجاس»، كما نسب هذا التشبيه مرسى للراحل كمال الشاذلى، يا إلهى، نفس النظرة الصهيونية لأنفسهم كيهود «شعب الله المختار» وغيرهم «أنجاس»! المكان مغلق، مكيف، التصفيق، الهتاف، اللحى، الأزياء، الزمن يمضى، يتماهى مرسى مع الجماعة، لا يرى غيرهم، أما الأغيار: أحمد شفيق، مكرم محمد أحمد، منير فخرى عبدالنور، المستشار على النمر، محمد الأمين، وغيرهم، كل هؤلاء يتآمرون على مرسى وجماعته، كل مؤسسات الدولة العميقة ضده، الأقباط، القضاء، الجيش، الشرطة، إلخ، كل هؤلاء هناك من يحاولون الوقيعة بينه وبينهم!! الأزمات الكثيرة والمزمنة مفتعلة، أزمة البنزين والوقود سببها السائقون ومحطات الوقود، أزمة الخبز بسبب أصحاب المخابز، وكل هذه الأزمات وراءها أحمد شفيق!! أقسم بالله أن أكثر من يثمنون أحمد شفيق هم الجماعة وذراعاها السياسية والرئاسية، وإذا كان الفريق شفيق بهذه القوة؟ ترى أين قوة الجماعة التى يحدثوننا عنها ليل نهار؟ لست من عاصرى الليمون، ولكننى أشهد بأننى استمعت للخطاب كمواطن عادى طبيعى، أردت أن أعطى «للرئيس المنتخب» فرصة أخيرة أمام ضميرى، ولكنى فوجئت بأن الرجل لا يعطى نفسه فرصة، لا يصدق إلا نفسه وجماعته، كان الراحل السادات فى آخر أيامه (مع فارق التشبيه) يتماهى مع الدولة، ويردد: «جيشى، شعبى إلخ»، ومرسى يتماهى مع الثورة، ويتحدث باسمها، بل وينسى أشقاؤنا فى الجماعة أنهم لم يلتحقوا بالثورة إلا بعد ظهرت مؤشرات نجاحها، ويتناسون أنهم فاوضوا الراحل عمر سليمان، ويتجاهلون الحقيقة التى تؤكد أنه من أيام 25 يناير، وحتى الأول من فبراير لم يجرح أحد من الإخوان فى ميادين الثورة.. فى حين قدم الجميع بمن فيهم الأقباط شهداء وجرحى فى تلك الفترة. د. محمد مرسى آسف، أنت لم تعطِ نفسك الفرصة وأسقطت نفسك بنفسك أمام الشعب.