شكرٌ واجبٌ لوزير يحمل حقيبة الثقافة، فناءَ عنها كاهلُه الضعيف. كنتُ أودُّ أن أقدمه لكم، فأخفقت! فليس للسيد بطاقةُ تعريف، لذا لم نسمع عنه. ذاك أن المبدع يُسمَع عنه بإبداعه. فنقول: دانتى/الكوميديا الإلهية - جوته/فاوست - طه حسين/الفتنة الكبرى - عبدالوهاب/الجندول - فرانز شوبرت/السيمفونية الناقصة - فيفالدى/الفصول الأربعة - صلاح جاهين/الرباعيات - شادى عبدالسلام/المومياء.. إلخ. وإذاً، حين نود أن نذكر «المونتير» علاء عبدالعزيز، ماذا سنضع جوار اسمه لنُعرِّفه؟! مجموعة من الأصفار! ومع هذا نشكره، كما نشكر النظام الإخوانى الفاشل الذى يجهد أن يمحو الثقافة المصرية وهويتها العريقة. أشكر كذلك عضو الشورى الذى يرى الباليه «فن عُراة»! ذاك أنه يرانا بجزء غامض من جسده، غير الذى يبصر به الناسُ الناسَ، أى العيون. شكراً لكل الظلاميين لأنهم حققوا لى حلماً عزيزاً طالما راودنى، وقد تحقق بالأمس، فى شارع «شجرة الدرِّ»، (وللاسم دلالتُه)، أمام وزارة الثقافة المصرية المنكوبة. أجولُ فى شوارع أوروبا، أو أمريكا اللاتينية، فأغار! فتلك الشعوبُ الجادة التى تكد وتخترع وتُصنِّع، ونحن نستهلك فى كسل وبلاهة، قد وصلت إلى حقيقة وجودية كبرى تقول: إن الفن يُنقِّى الروح من أدرانها، ويُميت داخلنا «الهمجىَّ» الذى يودُّ أن يُطلَّ برأسه ليسرق ويقتل ويغتصب ويسب ويلعن، فتأتى الفنون لتقمع هذا «الوحشَ» الرابض داخلنا، وتعلِّمه التحضر والرقى والأدب والأخلاق. لهذا قال أفلاطون: «علِّموا أولادكم الفنون، ثم أغلقوا السجون». ذاك أن المجتمعات التى تُعلى من شأن الفنون، تقلُّ فيها نسبة الجريمة، والعكس صحيح. شىء معتاد أن تشهد فى الشوارع الأوروبية أوركسترا كاملاً يعزف سوناتا، ويتحلَّق حوله الناس ليغسلوا أرواحهم. معتادٌ فى جنيف السويسرية أن تلمح بيانو فى كل ميدان وشارع، يجلس عليه مَن يشاء ليعزف ما يشاء. وأنا عزفت على أحدها «فالس الربيع»، فتحلَّق حولى الأطفالُ والأمهاتُ والشبابُ، ينصتون فى احترام لفن عظيم اسمه الموسيقى، ولفكر رجل استثنائى اسمه تشايكوفسكى، فيما يرسم خيالهم باليرينات ساحرات كالفراشات يرقصن «كسَّارة البندق». تساءل بعض قرَّائى: كيف لكاتبةٍ مثلى، جعلتِ المرأةَ والارتقاءَ بها، قضيتَها الأولى، أن تقول إن الرقصَ فنٌّ راقٍ؟! والحقُّ أن لا شىءَ رفيعٌ فى ذاته أو مبتذلٌ. الرقىُّ والابتذالُ يحصلان من أسلوب التناول. كلُّ فنٍّ حقيقىٍّ هو بالضرورة راقٍ، وكلُّ زائفٍ هو ركيكٌ ومبتذلٌ، وإن جسَّد الفضيلةَ ذاتَها. فالفضيلةُ تأبى أن تمرَّ إلا عبر الحقيقىِّ الأصيل. فالفنُّ التشكيلىُّ، مثلاً، سيكون راقياً إن نحتته ريشة فنانٍ حقيقىٍّ، ويكون ركيكاً مبتذلاً إن راوده مُدَّعٍ لا يعرفُ أسرارَ اللون والفضاء والخط. اللوحةُ التى تصوِّرُ امرأةً عاريةً، لن تكون مبتذلةً بسبب مضمونها الذى قد يراه السلفيون باخوسياً إباحياً، لكنها ستكون ألفَ مبتذلةٍ إذا «ارتكبتها» ريشةٌ غيرُ موهوبة. الشىءُ ذاته ينسحبُ على الفنون كافة، بما فيها الرقص، بكلِّ ألوانه. أصدقاؤنا الغاضبون الذين لم يروا فى الرقص إلا صدوراً وخصوراً، لم ينظروا إلا إلى القشرة التى تحمى جِذْعَ الشجرةِ من الرطوبة والحشرات. لكن فتنةَ الرقص، تكمنُ فى نَسْغِه الخبىء، المُحاط بألفِ سياجٍ لا يقدرُ على اختراقِها إلا عينٌ مدربةٌ على تعاطى الفنِّ وتقديره. من زار أمريكا اللاتينية يعرفُ كيف حَلَّتْ تلك البلادُ الفقيرةُ مشاكلَها الوجوديةَ، والاقتصاديةَ بالرقص، الذى يقشِّر عنهم أوجاعهم. ها هى فرقة باليه القاهرة قد نزلت عن علياء خشبة المسرح، إلى أرضنا الطيبة، مع اعتصام المثقفين الغاضبين على هُوية مصر التى تُسرق. وها هم يرقصون «زوربا» فى الشارع ونرقص معهم. وها نحن شعبٌ عريقٌ يعرف كيف يحمى هُويته من اللصوص. وها موعدنا اقترب: 30 يونيو.