تعددت الآراء حول سد الألفية الجديدة الذى تقوم الحكومة الإثيوبية بإنشائه على النيل الأزرق وتقول الدراسات إنه يؤثر على الحصة المائية الخاصة بمصر، وكذلك على القدرة الكهربائية. تباينت الأفكار وتباينت معها ردود فعل القوى السياسية إلى درجة أدت إلى ضبابية شديدة حول السد وآثاره، وكذلك حول الدول المانحة والشركات المنفذة. وبدهى جداً أن كيفية التعامل مع هذه القضية يستلزم الوضوح الكامل والشفافية التامة حتى لا نسير فى طريق مظلم. المكلفون بهذا التوضيح هم الخبراء أصحاب العلم والخبرة ومعهم مجموعة من أهل السياسة والدبلوماسية الذين يتحسبون لكل خطوة ولكل كلمة. ومن الوضوح أيضاً أن نقر بحق الدول الأفريقية فى التنمية الخاصة بها، حيث تعانى أغلبية هذه الدول من تخلُّف مزمن يدفعها لأن تفكر فى كيفية الهروب منه إلى آفاق التقدم والرفاهية، وتعتبر المياه أحد المصادر الطبيعية التى يمكن استثمارها فى هذا المجال. ومن أهم أشكال التفاوض ذلك المعروف بمبدأ «المكسب المشترك»، ومعناه أن يحرص المتفاوض على أن يحقق مكاسب متوازنة لطرفى التفاوض، كى يحافظ على مستقبل التعامل والتعاون مع الآخر. ومما لا شك فيه أن علاقتنا المستقبلية بدول القارة الأفريقية تقوم على مثل هذا التعاون الذى يحقق المصلحة لكل الأطراف، وتزداد هذه الخصوصية مع دول حوض النيل التى تعاون التاريخ والجغرافيا فى إيجاد منظومة استراتيجية لا يمكن كسرها إلا إذا تغيرت الجغرافيا ونُسى التاريخ، وهذا من المستحيلات. إن القارة الأفريقية تمثل لمصر امتداداً طبيعياً للتعاون فى كل المجالات الاقتصادية والثقافية وغيرها، ويمكن الإشارة فى هذا المجال إلى افتتاح الخط الملاحى النهرى الذى يبدأ من بحيرة فيكتوريا، حيث منابع النيل حتى مصبه فى البحر الأبيض المتوسط، ويحقق هذا المجرى الملاحى فوائد اقتصادية لمعظم دول حوض نهر النيل، وفى الطريق افتتاح الخط البرى بين كيب تاون فى أقصى جنوب القارة والقاهرة فى الركن الشمالى منها. وهذان نموذجان لكيفية التعاون مع الدول الأفريقية لتحقيق المكاسب المشتركة. ومصر إذ تتبنى هذه السياسة، فإنها تنفذها مؤيدة بالاتفاقات الدولية وبالثقل التاريخى لمصر مستحضرة ريادتها فى مواجهة الاستعمار وتأييد حركات التحرُّر التى أفضت إلى استقلال معظم دول القارة، فلا مجال إذن للاستعلاء المقيت، فقد مثل ذلك شرخاً نفسياً لدى الكثيرين من الأفارقة وعانوا منه مع المستعمر الأجنبى، فهل يُعقل أن ينتقل هذا الشرخ إلى تعاملاتهم معنا!؟، ثم إن التهديد باستعمال القوة أمر مرفوض ومستبعد، إذ كيف تكون الحال إذا لجأت معظم دول حوض نهر النيل إلى إقامة مشروعات تؤثر على مصر، فهل تدخل مصر معها جميعاً فى صراع مسلح أم أن البديل التنموى والتفاوضى يشكل أساس التعامل فى الحاضر والمستقبل. إن مصر إذ تستبعد هذا الخيار، فهى أيضاً تستبعد فكرة التفريط فى أى حق من حقوقها التاريخية المؤيَّدة باتفاقات دولية صريحة. إننا نحتاج إلى حكمة بالغة وحشد مصر لمخزونها الحضارى والثقافى وقواها الناعمة التى حباها الله بها، ومنها الأزهر الشريف والكنيسة القبطية والجامعات المصرية التى يمكن أن تشارك فى إعداد أجيال أفريقية صديقة لمصر. فهل نمتلك هذه الحكمة؟ وهل نملك تفعيلها؟، الإجابة بكل ثقة نعم نملك، ونعم نقدر بإذن الله.