قضية نهر النيل هى قضية الساعة وكل ساعة.. قضية الأمس واليوم والغد.. قضية التاريخ، والجغرافيا، والتواصل والترابط الإنسانى والحضارى.. قضية الحياة والتقدم والنمو والازدهار.. صدق هيرودوت عندما قال إن مصر هبة النيل.. ومع إيماننا ويقيننا وتسليمنا بهذه الحقيقة، فإننا للأسف نتعامل معها بقدر من الاستهانة والاستخفاف.. إن من عاداتنا السيئة نحن المصريين أننا لا نشعر بقيمة ما بأيدينا، إلا إذا فقدناه.. وأحيانا نساهم بتهاوننا وغفلتنا وحمقنا فى ضياع ما نملك، رغم أهميته القصوى لنا.. لا ندرك ذلك إلا بعد فوات الأوان.. كالطالب الذى يظل يلهو ويلعب ويعبث طوال العام، ثم ينتبه فجأة إلى أن لديه امتحانا فى الصباح.. البعض منا يسعى للظفر ب«كبير» ليستند إليه ويحتمى به، تاركا أهله وناسه، معتقدا أن هذا سوف يمكنه من تحقيق آماله وأحلامه.. فإذا ما وجد بغيته، أخذه الكبر والزهو وسيطر عليه الغرور والتعالى، حتى على أهل حيه، إذ لم يعد بحاجة إليهم أو الاستقواء بهم فى مواجهة الآخرين.. هذا ما يحدث فى عالمنا على مستوى الدول.. إذ بعد انتصار السادات فى حرب 73، ايقن أن أمريكا هى «الكبير» الذى يجب أن يستند إليه ويعتمد عليه، فأسلس قياده لها، وأدار ظهره للعرب والأفارقة.. لم يعد لهؤلاء وأولئك أى اعتبار لديه.. ولم لا؟ لقد ضمن الرجل حماية «الكبير» ورضاءه عنه، خاصة بعد أن أبرم مع الصهاينة اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام.. نفس الشىء حدث مع مبارك.. فالرجل سار على درب سلفه، خاصة فيما يتعلق بأفريقيا، ظنا منه أن ولاءه «للكبير» يغنيه عن النظر إليها والاهتمام بها.. لقد كانت علاقة مبارك بدول أفريقيا خربة، بل إنه لم يسعَ يوما لتحسين وتطوير علاقته بدول حوض نهر النيل، خاصة إثيوبيا، من أجل الحفاظ على نصيبنا من المياه الذى يتدفق أغلبه إلينا منها عبر النيل الأزرق.. هذا فى الوقت الذى كانت فيه إيران والصين والكيان الصهيونى يرتبون أوضاعهم ويحتلون أماكنهم فى أفريقيا.. ثم جاءت محاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا فى يونيو عام 1995 لتقطع الطريق تماماً على أى اتصال بين مصر وإثيوبيا. وجاءت ثورة 25 يناير، فأعادت لمصر مكانتها ومنزلتها، إقليميا ودوليا، إلا أن المجلس العسكرى الذى أدار شئون الحكم بعدها، لم تكن لديه الرؤية ولا الاستراتيجية لاستعادة العلاقة مع دول حوض نهر النيل ولا مع إثيوبيا.. وفى العام الأول لحكم الدكتور مرسى، لم تأخذ العلاقة مع إثيوبيا حظها ولا نصيبها من الاهتمام، مع أن الوفد الشعبى الذى زار إثيوبيا عقب الثورة مباشرة لعب دورا كبيرا فى محاولة سد الفجوة بين البلدين وإعادة الأجواء إلى سابق عهدها.. كان من الممكن أن يبنى الدكتور مرسى على ذلك، وأن يتابع ما يجرى على الساحة هناك، لكن يبدو أن انشغال الرجل «بأمور أخرى» فى مصر أعاقه عن القيام بالمهمة فى تلك القضية الحيوية والمحورية! قضية سد النهضة الإثيوبى ليست مفاجأة، ولا هى جديدة، فالكل يعلم بحقيقتها منذ سنوات، ويعلم أن الكيان الصهيونى يقف وراءها بهدف حصار مصر والضغط عليها من الجنوب.. المشكلة أن السد سيقام على النيل الأزرق الذى يتوقف عليه حوالى 86٪ مما يصلنا من المياه.. وقد أعلنت إثيوبيا منذ أيام قليلة البدء فى تحويل مجرى النهر.. ولا شك أن بناء السد سوف يتحكم فى نصيبنا من المياه، إن شاءوا منحوا وإن شاءوا منعوا، وهو ما يمثل خطورة على حياتنا وحياة أجيالنا القادمة، ومن ثم فالقضية فى حقيقتها أمن قومى لا يمكن التساهل فيه أو العبث به.. كنت أتوقع عقب الإعلان الإثيوبى مباشرة أن يدعو الدكتور مرسى خبراء المياه والاستراتيجية والأمن القومى على وجه السرعة إلى لقاء عاجل لدراسة هذه القضية ووضع خارطة طريق فيما يجب اتخاذه من إجراءات عملية لضمان عدم المساس بنصيبنا من المياه.. لكن ذلك للأسف لم يحدث، على حد علمى. من المؤكد أن توقيت الإعلان عن تحويل مجرى النهر مناسب جداً لإثيوبيا ولمن يقف وراءها، فالنظام المصرى يكاد يكون فى أضعف وأسوأ حالاته، من حيث الانقسام والتفكك والتشرذم والدخول فى معارك مع القضاء والإعلام والمثقفين، فضلا عن المشكلات والأزمات الحياتية التى يعانيها المواطن المصرى، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. لذا نقول إنه من الواجب على الدكتور مرسى أن ينهى حالة الاحتقان والتوتر هذه، وما يتطلبه ذلك من سعى لجمع الشمل ورأب الصدع، وتجنيب البلاد كل ما يوقظ الفتن ويثير العداوة والبغضاء.. وكما سبق أن قلنا مطلوب فى هذا الوقت بالذات شراكة وطنية حقيقية قادرة على تحمل المسئولية والارتفاع إلى مستوى التحدى الذى تواجهه مصر.. أنا أعلم أن هذه النصيحة لن تجد آذانا مصغية، وأن هناك من سيهوّن من شأن المشكلة وآثارها، وتداعياتها، لكن ليعلم الجميع أننا سنواجه فى المستقبل القريب وضعا كارثيا ومأساويا، وهو ما يستلزم حشد كل الطاقات الدبلوماسية، الرسمية والشعبية، للتواصل مع الجانب الإثيوبى للحيلولة دون المساس بنصيب مصر من المياه. إنه يجب على السلطة فى مصر أن تقوم بالتنسيق والتعاون اللازمين مع السودان فى هذا الصدد، وألا يدخر البلدان وسعا فى الاتصال برؤساء دول حوض نهر النيل للتحذير من مغبة ما سيلحق بمصر والسودان من مخاطر.. كما يجب أن يكون هناك تحرك نشط وفاعل على المستوى الدولى للتعريف بالقضية، والضغط فى اتجاه إثبات حقنا القانونى والمشروع.. ويبقى لدينا بعد ذلك الاستعداد لاستخلاص حقوقنا بالقوة.. إن استطعنا!!