قضى المثقف المصرى الواعى عمره، يصدق، بحكم أداء دوره فى تكوين وعى الناس وإدراكه، أن الثقافة فى نهاية المطاف هى حرية وفعل حرية، وأنها إدراك لحقيقة السؤال، وأنها حماية للدولة المدنية بكل أشكالها المعاصرة، حيث يتم فيها الفصل بين السلطات، وبها تحترم القوانين وحرية الإبداع. ظل المثقف الملتزم طوال تاريخه يصدق أنه الحافظ لتاريخ بلده وهو من عاش همومه على نحو من الإنحاء، وأنه طوال حقب الاستبداد التى استبدل فيها الزعيم نفسه بالأمة، كان المثقف ضميرا للفقراء، وأهل الطريق، والمستضعفين الذين يعيشون على الستر فى كل أرجاء مصر المحروسة، وكان فى تجلياته الفكرية والإبداعية المتصدى الحقيقى والناقد لسلطة القمع. أنا من الذين يؤمنون أنه ما كان للربيع العربى أن يزدهر فى الخامس والعشرين من يناير 2011 لولا ما أنجزه المثقفون الشرفاء وعبر تاريخ مصر المعاصر. بل إن الثورة كانت ثمار تاريخ طويل من نضال المثقفين، هؤلاء الواعين بحركة التاريخ، الذين ظلوا يمثلون الضمير الحى للناس، وكانوا عبر ما يكتبونه أصحاب أحلام تتجاوز الواقع إلى الحلم الذى يهتم بالتغيير. أشهد أن سيد درويش ولطفى السيد وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وسلامة موسى ولويس عوض والأخوين عبدالرازق وأم كلثوم ويحيى حقى ويوسف إدريس ومحمد عفيفى مطر وأمل دنقل، أشهد أننى رأيتهم فى الميدان فى يوم السابع والعشرين من يناير يشاهدون ما يجرى بامتنان. ليس الأمر أضغاث أحلام، ولكنه حقيقة بحجم ما ساهموا به فى إيقاظ وعى الناس، وبقدر ما وضعوا علامات على طريق التنوير. رحم الله طه حسين الذى أكد فى مشروعه على قيمة الحرية باعتبار كافة المجتمعات فى حاجة إلى هذه القيمة «فالحرية هى الشرط الأول الذى يطمع إليه كل مجتمع، والتى تسعى إليها كل معرفة». نحن الآن فى مواجهة واقع يواجه انفجارات تهز العالم العربى، وبالتالى نحن فى حاجة إلى ثقافة تسائل الواقع، وتنتج ما يعيد تشكيل هذا الواقع، واكتشافه من جديد، وتحتفى بقيمة الحرية، ومواجهة النص المستعاد، وتعمل على الخروج من سلطة القمع بإبداع جديد يؤسس لرؤى ثقافية جديدة. نتأمل الآن ما يجرى فيأخذنا العجب!! ونرى الآن أحوالنا وقد اتسمت بقلة القيمة!! إزاحة كاملة للثقافى، واستبعاد مزرٍ لهذا النشاط الإنسانى الذى ينتقل بالفرد من حالة الضرورة إلى حالة الحرية. كل برامج المرشحين للرئاسة تخلو تماما من أحوال الشأن الثقافى، لا ذكر للثقافة، ولا إحالة واحدة لمشكلاتها المتراكمة عبر ستين عاماً هى عمر سلطة القمع فى هذا الوطن. لا إشارة عن إحياء منهج، أو الاهتمام برؤى، أو تصور لخريطة طريق تعين الثقافة المصرية للخروج من أزمتها التى تعيشها. لقد تركت الثقافة المصرية لتعيش معارك صغيرة، وتعيش أزمة فتاوى تتمسح بالدين، ودعاوى تكفير كل مبدع يحاول الخروج على النص الثابت، أو إبداء رأى حر. كما تعيش الثقافة المصرية أزمة تواصل حقيقى بامتناع الإعلام بأدواته المرئية والمسموعة والمقروءة بمعاداة الثقافة الجادة والإبداع المستنير، والفكر الرفيع، والاهتمام بثقافة الاستهلاك، والترويج لها. هل يعى السادة المرشحون دور الثقافة فى تكون وعى المجتمعات؟ أم أن كل مرشح ينتمى لحزبه، أو جماعته، أو ماضيه، أو معتقده، يكتفى كليا بتلك الثقافة التى عرفها وتعلمها وآمن بها عبر نشاط جماعته، أو حزبه؟ خلت البرامج من معنى العمل على توصيل الثقافة للناس، وإدراك احتياج المواطن إلى هذه المعرفة. ما الدور الذى يمكن أن تقوم به مستقبلاً وزارة الثقافة؟ ما الذى يمكن أن يقدمه المجلس الأعلى للثقافة وهل نحن فى حاجة لهما؟ أم يمكننا عبر آليات أخرى ومؤسسات الوزارة إيجاد مناخ جديد؟ كيف الخلاص من ثقافة حقب الاستبداد التى مجدت الفرد، وعملت على إحياء السلفية فى أكثر تجلياتها تعصبا، وتركت الوطن مرتعا لجماعات الإسلام السياسى الذين يقيمون أضرحة الأولياء، ويعظمون السلف الصالح، ويفتحون باب الجنة أمام الفقراء الذين فاتهم الحظ فحلموا بالفردوس؟ إنها أسئلة مشروعة تطرح الآن فى هذا الوقت القائم على الاحتمالات قبل أن تطفأ المصابيح ويحل الظلام.