حدث معى.. ومع زملاء مهنة آخرين: البقال والحلاق والفكهانى والقهوجى وبائع الصحف وسائق التاكسى وعامل البنزينة وحارس البنك وكل الواقعين من قعر قفة الطبقة المتوسطة ومَن دونهم.. يشعرون الآن أنهم واقفون فى مفترق، لا يعرفون من المحق ومن المخطئ! من الذى أضاع البلد، ومن الذى سينقذه؟ متى ينزاح كابوس الإخوان، ومن الذى سيأتى بعدهم؟ يقول البعض: «رحم الله أيام مبارك.. يبدو أننا ظلمناه». وما إن يلتفت إلى ثلاثين عاماً مضت حتى يشيح ممتعضاً: «كانت أياماً سوداء». ويقول البعض الآخر: «مالهم الإخوان.. خلينا نجربهم!»، لكنه ما إن ينظر تحت قدميه ويتطلع إلى آخر النفق حتى يشعر بالخطر: «مصر التى تركها مبارك عند حد الفقر.. تنحدر الآن إلى هاوية. لا عيش ولا حرية ولا عدالة ولا كرامة ولا أمان ولا يحزنون». هؤلاء وأولئك ينتظرون «مخلّصاً» أو «نبياً» جديداً، ينتشلهم من «نوستالجيا مبارك» و«هاوية الإخوان»، وليس ثمة «رهان ثالث» سوى «الجيش». جبهة الإنقاذ تحتاج إلى من «ينقذها» من «كاريزمية» رموزها. وهى فى الحقيقة: لا «جبهة» ولا «إنقاذ».. بل «هجين سياسى» رخو، لا يمنع «أخونة» ولا يصمد أمام «أسلمة»، والقاسم المشترك الوحيد بين رموزه الأشاوس.. هو ذلك الولع الجامح بالخطب والمؤتمرات والبيانات، والبيّنة على من ادعى: مصر تنحدر الآن إلى هاوية، والإخوان يبيعون ويشترون فى لحمها على قدم وساق، ويستدرجوننا إلى معارك يومية مربكة، من خطف المواطنين وتثبيتهم إلى قتل الجنود والعبث بأمن مصر القومى.. بينما رموز هذه الجبهة فرحون بما آتاهم الله من فضله: يتزاحمون بالمناكب وراء منصاتهم، ويتنافسون فى «التجعير» أمام كاميرات ال«توك شو»، ويدبجون بيانات نارية لا تساوى فى ذمة المواطن الغلبان «خبر عمود» فى صفحة وفيات! كانت أمام الجبهة -قبل أن تكون «جبهة»، وقبل أن تسمى نفسها «إنقاذ»- أكثر من فرصة لقطع الطريق على مرسى وجماعته.. لكنها أهدرتها: أولاً.. لفرط إيمانها الأعمى بديمقراطية «خلينا نجربهم»، وثانياً لأن رموزها أحرقوا أنفسهم فى ماراثون الحكم، وانشغلوا عن الناس ب«معارك فوقية» مثل الدستور و«التأسيسية» وإزاحة المجلس العسكرى وغيرها، بينما كان الإخوان يعبئون حشودهم ل«قيامة»، بشّر بها «إمامهم» قبل ثمانين عاماً، ويريقون أنهاراً من الزيت والسكر فى حوارى مصر وعشوائياتها ونجوعها البعيدة، حيث يرفع الجوعى والأميون والمنتهكة أسقفهم شعار: «خذ الحكم.. وأعطنى رغيفاً». والسلفيون متهافتون، آخر عهدهم بالسياسة «زنازين أمن الدولة»، وتكاد تنطبق عليهم -فى ارتباطهم بالإخوان- مقولة «من دقنه وافتل له»: فى النهار يقفون فى خندق واحد مع «قوى مدنية» تربوا على تكفيرها واستباحتها، وفى الليل يصطفون وراء «المرشد» ليصلوا عشاءهم «جماعة»، لذا لا ينبغى أن نصدقهم أو نطمئن إليهم، ولا ينبغى أن نتجاهل حقيقة أنهم أكثر تخلفاً وراديكالية من الإخوان.. حتى وإن كانوا أكثر منهم وضوحاً وعفوية. والذين يعتقدون أنهم أصبحوا «جبهة معارضة» لحكم الإخوان.. واهمون وسذّج، لأن الخلاف بينهما ليس استراتيجياً، بل خلاف على «كعكة الحكم». ولو كان هشام «قنديل الزيت» منحهم «حقيبتين» وزاريتين فى حكومة «نحمل الخير لمصر» لسكتوا وعادوا إلى حظيرة «السمع والطاعة» مهللين مكبرين! أما عن «القوى الثورية» فحدّث ولا حرج. أنا شخصياً -وليس المواطن العادى- أتساءل دائماً عن طبيعة هذه القوى: من هم.. وماذا يريدون بالضبط؟. ماذا فعلوا.. وما هى أيديولوجيتهم.. وإلى أى مدى يمكن اعتبار وائل غنيم وأسماء محفوظ وإسراء عبدالفتاح ونوارة نجم وغيرهم ممن صدعونا ب«شرعية ميدان التحرير».. قوى ثورية؟ أين كان هؤلاء حين انقض الإخوان على ثورتهم، وأين هم الآن مما يفعله الإخوان ب«مصر» التى يدّعون أنهم ثاروا من أجلها؟ كم كسبوا من هذه الثورة.. وكم خسرنا نحن؟ من الذى اغتنى بعد جوع.. ومن الذى تحول إلى «أيقونة فيس بوك» أو صورة على غلاف مجلة؟ من التى أصبحت فجأة تقتنى سيارة، بعد أن كانت تركب «صندلاً بأبزيم» وتتسكع طوال النهار فى شوارع العاصمة على لحم قدميها.. ومن التى وضعت حداً لعنوستها و«أوقعت» عريساً من لافتة «يسقط.. يسقط.. حسنى مبارك»؟. ما شعورهم الآن وقد أدركوا أنهم استُخدموا من قبَل الإخوان وسلفييهم وجهادييهم مخلباً لإزاحة مبارك، ثم لإفساد العلاقة بين «الجيش والشعب»؟ ما شعورهم وقد أحاط بهم الخوف والإحباط والفوضى والانفلات والجوع والسحل ومليونيات الردة من كل ناحية؟ هل هذا آخر نضالهم من أجل العيش والحرية والعدالة؟ أتساءل دائماً: ماذا ينفع المواطن الغلبان إذا كسب كل هؤلاء المناضلين وخسر نفسه؟ الناس حائرون، منهكون، قليلو حيلة، يسألوننا: «وماذا بعد؟!». يقولون لنا وكأننا أصحاب قرار: «افعلوا شيئاً. خلصونا. ارحمونا من مرسى وجماعته». فأقول لهم: أنتم الذين اخترتم. أنتم الذين أتيتم بهؤلاء الفاشيين وأجلستموهم على قلوبنا وعقولنا.. ويا عالم: متى «يغوروا».. وكيف! أقول لهم وكلى شماتة: «اللى حضّر العفريت.. يصرفه. تلك معركتكم أنتم قبل أن تكون معركتنا». أقول لهم وكلى غيظ: أنتم تستحقون الإخوان بقدر ما كنتم تستحقون مبارك.. فادفعوا ثمن غبائكم وعنادكم وأميتكم وقصر نظركم وحساباتكم الانتقامية، ولو كنت مكانهم لفعلت أكثر وأبشع مما فعلوا وسيفعلون، لأنكم تبدعون فى أول عشر دقائق وتبدأون بالتهديف، لكنكم دائماً تخرجون من المباراة خاسرين.. . والإخوان يعرفون ذلك. الإخوان يعرفونكم أكثر مما تعرفون أنفسكم، والفرق الوحيد بينهم وبين من سبقوهم فى الحكم أنهم خونة، متآمرون، لأنهم -عبر ثمانين عاماً من الكبت والكذب والتناقض وتخانة الجلد والانتهازية والتدين الزائف وكراهية الآخر والخوف من المستقبل والشعور القاتل بالدونية- أصبحوا وتراً مشدوداً فى نفوسكم المعذبة. أقول لهم أخيراً وليس آخراً: لم يبقَ لكم سوى «جيشكم». هو «مهديكم» المنتظر. هو ساعة صفركم، ورقمكم الصعب فى معادلة «ما بعد الإخوان». هو الشوكة التى تقف الآن فى حلوقهم بعد أن زحفوا على أخضر مصر ويابسها كالجراد، لذا يحاولون كسرها بكل الطرق.. فاحذروا: ثمة مؤامرة!