غافل أو ساذج أو حسن النية على الأقل، من يعتقد أن هجمة الإخوان على القضاء ترمى إلى تطهيره أو جعله مستقلاً وصالحاً ونزيهاً، إنما هدفها هو الاستيلاء عليه وتدويره لصالح الجماعة حتى تتمكن من أن تمسك بتلابيب كل شىء وكل أحد على أرض مصر. فباب مساعدة القضاء على التطهر الذاتى من كل ما علق به من فساد أو جعله مستقلاً مالياً وإدارياً واضح للعيان، ولا يحتاج إلى أدنى جهد، حتى نضع أيدينا عليه، ألا وهو غلق كل النوافذ التى صنعها نظام مبارك كى يعطى فرصة قوية للسلطة التنفيذية عبر وزارة العدل لتتدخل فى شئون القضاء بشكل جارح وفاضح، لكن ما يفعله الإخوان هو الإبقاء على هذه النوافذ مفتوحة بكاملها ثم فتح عشرين نافذة أخرى ومثلها من الأبواب حتى ينسحق القضاء تماماً تحت إرادة أهل الحكم ويصبح تابعاً ذليلاً لهم، يزين لهم الباطل، ويحيى لهم المنعدم، ويفتح كل المسارب المغلقة أمامهم ليلفوا حبالهم على رقاب الجميع، أى ببساطة يريدون قضاء يأتمر بأمرهم، وهو صاغر ذليل. قبل الثورة كنا نقول «ليس لدينا قضاء مستقل لكن لدينا قضاة مستقلون»، وكان هذا راجعاً إلى فرض سطوة السلطة التنفيذية على القضاء، ولو كان الإخوان جادين فى الخروج من هذا المعادلة البغيضة لطلبوا من القضاة أن يعدوا قانوناً يغلق أى نافذة أمام وزير العدل أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو أى صاحب موقع ومنصب فى السلطة التنفيذية من أى يكون له أى يد طولى على القضاء والقضاة، لكنهم لم يفعلوا ذلك، إنما دفعوا بعض الهواة ليعدوا قانوناً جديداً للسلطة القضائية، لا يساعدها على الاستقلال، إنما يأتى بها طيعة إلى قبضة أهل الحكم، كى يعصروها ويؤدبوها ويجبروها على أن تحكم بما شاءوا، حتى لو ضاع العدل وانعدم اليقين. ومع أن الإخوان يقولون كل لحظة «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال» ومع أن أعوانهم يصدعون رؤوسنا عن «التوقف والتبين» أمام كل حالة، إلا أنهم يتغافلون عن كل هذا ويسيرون عمياناً وراء مصالحهم الضيقة، وينسون للقضاء أنه طالما وقف إلى جانبهم ضد مبارك، فمجلس الدولة حكم لصالحهم فى ثلاثين سنة نحو 182 حكماً، ومكّن بعضهم من أن يصبحوا أساتذة فى الجامعات رغم أنف أجهزة الأمن، وكان شباب الإخوان يهتفون أمام محاكم النقض والاستئناف والجنايات «إن فى مصر قضاة.. لا يخشون إلا الله». لكن الإخوان الذين يضحون بكل شىء وكل أحد من أجل مصالحهم، فى جحود ونكران وبلا ضمير، لا يشغلهم أن استهداف القضاء لا يربك الحالة السياسية والأمنية فى البلاد فحسب، بل يجعل الدول ورجال الأعمال يحجمون عن ضخ أى قدر من الاستثمار فى مصر؛ فمن ذا الذى يكون آمناً على ماله فى بلد يطعن فيها الشخص الذى يجلس فى موقع رئيس الجمهورية فى نزاهة القضاء، ويغمز ويلمز فى قناته؟ وما هذه الدولة التى ستسلمنا مليماً واحداً ممن سرقه أركان نظام مبارك من قوت شعبنا المسكين وهى تسمع قيادات الإخوان وهم يسبون القضاة، بلا تمييز، ويدفعون بغلمانهم وأزلامهم وأتباعهم ليحاصروا المحاكم ويتعقبوا رجال العدالة؟ رغم أن قادة الإخوان يعرفون أن القاضى يحكم بالنص الذى أمامه وليس من حقه ولا سلطانه أن يصدر هو التشريعات والقوانين التى يحكم بها، ولا يمكنه أن يستند إلى الهوى أو التقدير الجزافى فى حكمه. لقد كنت من المتنبهين لهذه النية السيئة مبكراً، حين علقت بعد ستة أشهر فقط من تخلى مبارك عن السلطة باستفاضة بإذاعة البرنامج العام على خبر يقول إن الإخوان يعقدون دورات تدريبية فى «القضاء الشرعى» سيتخرج منها الآلاف لسد العجز فى القضاة. يومها استمع الطبيب عصام العريان إلى تعليقى فهاتفنى منزعجاً وقال: «المسألة ليست هكذا، وسأجعل عبدالرحمن البر يشرحها لك»، وظل البر يتحدث معى على الهاتف نصف ساعة تقريباً، وبعد أن أنهى شرحه قلت له: كل ما قلته يثبت أننى على حق فى هواجسى وشكوكى، وها قد جاء الوقت لنتأكد من كل هذه النوايا الخبيثة المبيتة، التى لن تكون سوى سهام مسمومة ترتد إلى نحور من أطلقها.