كان مطلب نقل تبعية التفتيش القضائى من وزير العدل إلى المجلس الأعلى للقضاء، أحد المطالب الأساسية للإصلاح القضائى منذ انعقاد مؤتمر العدالة فى منتصف الثمانينيات، وحتى سقوط مبارك. استخدمت الدولة قبل الثورة جهاز التفتيش القضائى فى التنكيل بمن لا يروق لها من القضاة، منحت وزير العدل صلاحيات واسعة جدا للتدخل فى أعمال القضاء، سواء بإحالة قضايا إلى دوائر بعينها، أو إحالة من يعتقد بأنه يسىء للقضاء أو لا يروق للدولة إلى الصلاحية.
بهذا السلاح استهدف نظام مبارك قضاة الاستقلال، وظل التفتيش القضائى تابعا لوزير العدل، حتى بعد الثورة، حين بادر وزير العدل الحالى احمد مكى ومساعده للتفتيش القضائى زغلول البلشى بنقل تبعية التفتيش القضائى إلى المجلس الأعلى للقضاء، حتى جاء الدستور الجديد ليكرس، استقلال القضاة تماما، وبالتالى لا يستقيم أن يكون القاضى مستقلا ثم تكون متابعته ومراقبته ومحاسبته فى يد وزير العدل الذى يمثل السلطة التنفيذية.
قبل الثورة كانت الجماعة وكل القوى الوطنية والإصلاحية مع استقلال القضاء بلا جدال، وبعد الثورة ظل الجميع يرفع الشعارات الداعمة لاستقلال السلطة القضائية تماما، والحق أن نصوص الدستور الجديد جاءت داعمة لذلك.
لكن الممارسة بقى فيها شىء مختلف يجعلك تشك ألف مرة أن السلطة الجديدة مازالت عند قناعاتها المعلنة سابقا فى دعم استقلال العدالة، وأنها كأى سلطة ترغب فى تطويع السلطة فحسب.
بالأمس حدثتك على أن تعاطى الإخوان فى ملف النائب العام، لا يمكن أن يخرج من أناس لديهم قناعة حقيقية باستقلال القضاء، وإلا كان الرئيس عهد بتعيين النائب العام إلى مجلس القضاء، وما رضى ببقاء هذا المنصب فى قلب الانقسام والاستقطاب السياسى.
لم ترغب الجماعة فى نائب عام مستقل، بقدر ما رغبت فى نائب عام لديه ولاء للنظام السياسى الحالى، كسابقه بالضبط الذى كان لديه ولاء للنظام السابق.
المفارقه التى تدعم هذا الطرح، هى مطالبة الجماعة والمحسوبين عليها والمتعاطفين معها الذين يحشدون اليوم لما يسمونه «مليونية تطهير القضاء» بإعادة التفتيش القضائى لتبعية وزير العدل.
هذا تراجع آخر يثبت لك أن الهدف ليس استقلال القضاء وإنما تطويعه، فعندما يرفع قانونيون إسلاميون وقيادات فى نخبة الحكم الجديدة طالما تحدثوا عن استقلال القضاء، ورفعوا مطالب مثل استقلال النائب العام ونقل التفتيش القضائى، شعارات تدعم التدخل السافر فى شئون القضاء، وتدعو إلى إعادة سيف التفتيش «الحكومى» على رقاب القضاة، فهنا الصورة أكثر وضوحا، أن الجماعة لا يعنيها استقلال القضاء فى شىء بقدر ما يعنيها أن يستجيب القضاء لمطالبها وأجندتها، هنا فقط سيعتبرون القضاء شامخا وعادلا ونزيها، لكن إذا صدر حكم واحد على غير الهوى الإخوانى، فما أسهل استدعاء شعارات تطهير القضاء.
الإخوان لا تريد قضاء مستقلا، لكن تريده تابعا ومسيسا فى اتجاه السلطة، واستبدال قضاة كان ولاؤهم للنظام السابق بقضاة ولاؤهم للنظام الحالى، وهذه هى معركتهم التى يحشدون لها اليوم، ويعدون لها قوانين لتغيير التركيبة الداخلية للقضاة، هذه معركتهم وليست معركة الثورة.
قضاة الإخوان مثلهم مثل قضاة مبارك.. لن يجلبوا عدلا ولا استقلالا.