لم تخل حياة « على» القصيرة من الشقاء سعياً وراء لقمة العيش، كما أنه لم تخل أيضاً من «المصادفات»، هكذا مضت حياته.. تعرف على فتاة وأحبها « صدفة»، ووقع عليه الاختيار فى وظيفة بإحدى الشركات «صدفة»، وهكذا أيضاً انتهت حياته.. «صدفة». كل صباح.. يقف «على»، 18 سنة فى المحطة، منتظراً قدوم الأتوبيس رقم «103» الذى يجوب مناطق عدة بالقاهرة وينتهى خط سيره بالجيزة.. وحان موعد على مع «صدفته» الأخيرة.. فى ذلك الصباح، وصل الأتوبيس قبل موعده بدقائق، استقله من منطقة كوبرى الخشب بصحبة مجموعة من زملاء العمل فى طريقه إلى شركة «ويسترن كومبانى للدخان»، جلس الشاب ذو البنيان القوى فى الصف الثالث خلف السائق، أطبق جفنيه، وغفا لدقائق، لتصبح تلك الغفوة، آخر محطة فى حياته. بالقرب من كوبرى ثروت، لاحظ السائق أن دراجة نارية تقل شخصين تلاحقهم.. تارة عن يمينه وأخرى عن يساره.. تتقدم مرة إلى الأمام وأخرى تتراجع.. لم يدر ببال السائق أنهما يقصدان أحد الركاب.. انتهز مستقلا الدراجة نزول الأتوبيس من أعلى كوبرى ثروت وأطلقا النار من سلاح خرطوش كان بحوزة أحدهما تجاه شخص ما.. «الصدفة» وحدها جعلت الرصاصة تستقر فى وجه «على».. الجناة كانوا يقصدون أحد الأشخاص الجالسين بالمقعد الذى يليه.. يتوقف الأتوبيس والجميع يهرولون منه.. وقع «على» أرضاً وفارق الحياة. «على حسن على مسعود»، 18 سنة، طالب بالصف الثالث الثانوى من أسرة بسيطة لأب يعمل سائقاً ب«المقاولون العرب» وأم ربة منزل وأخ ل4 أشقاء هو أكبرهم.. فى شقة متواضعة بمنطقة كوم بكار بالهرم، جلس أفراد الأسرة يشد بعضهم أزر بعض.. «محدش يمسح رقم على.. اتصلوا وأنا هارد عليكم»، توجه الأم حديثها لزملائه. «على، كان أول فرحتنا وحنين أوى.. من سنة 6 ابتدائى وهو شغال ومطحون.. وكمان والده عمل 3 عمليات فى القلب وهو قرر أنه يساعدنا على المعيشة اللى بتغلى كل يوم وعشان إيجار الشقة ولما كبر كان كل يوم يروح الشغل بتاعه فى الشركة ويرجع يكمل شغل فى محل الجزارة بتاع خاله فى بولاق الدكرور ومش بييجى عندنا فى الهرم إلا يوم الإتنين من كل أسبوع.. كل الفلوس اللى يشتغل بيها يديهانى ويقولى أنا مش هاخد منها إلا مواصلاتى والباقى لك أنتى يا ماما. كان حاسس بيا أوى وشايل همى أنا وأخواته ولما يحتاجوا حاجه يقولوله وهو يجيبها على طول من غير مايقول لحد.. كان بيحب يعملها مفاجأة.. زى ما هو برضه مات فجأة. كنت أشوفه فى أى مناسبة قاعد فى حاله مش زى الشباب اللى بترقص وبتغنى ولا حتى كان بيسقف وآخر فرح حضره، كان بتاع واحد جارنا هنا كان قاعد زى الغريب.. الناس كلها تستنى العيد الكبير عشان تفرح وهو يا حبة عينى يفضل لغاية آخر يوم فى العيد شغال مع خاله.. كانت آثار الشغل باينه عليه وعلى إيده وأقوله ريح نفسك شوية يا حبيبى ويقولى مينفعش خالى لوحده فى المحل وبعدين أنا لازم أشتغل من دلوقتى عشان ابنى شقتى واتجوز وأفرحك إنتى وبابا.. غدروا بيه واتحرم من الفرحة بدرى.. وأنا برضه اتحرمت منه بدرى. قبل ما ييجى من شغله كل يوم أحد يكلمنى يقولى عايزة حاجة يا ماما أجيبهالك معايا.. ويدخل علينا بالخير كله.. وأنا كنت أقوم أعمله العصير وأشيله فى التلاجه عشانه.. آه كان عنده 18 سنة بس تديه 25 سنة فى عقله وتفكيره.. مكانش يشرب حتى سيجارة ولا أى حاجة.. كان بيصوم وهو عمره 7 سنين. كان لما يعرف إنى عاملة مشكلة مع حد من الجيران، يقولى والنبى يا ماما متتخانقيش ومتزعليش حد مننا.. فى عيد الأم اللى فات جابلى عباية جديدة لسه ملبستهاش وجابلى «عجلة» أحط فيها الخضار مكانش عايزنى أتعب وأنا نازلة السوق.. وجاب لأخته فى عيد الحب موبايل كانت عايزاه.. وقالى عشان لو اتأخرت نعرف نطمن عليها. آخر أجازتين، والده كان فى شغل ماشفهوش وكنا بنبات مع بعضنا فى أوضة إخواته.. كان هو ينام على الأرض جنب السرير بتاعى ويقولى عشان أبقى قريب منك يا ماما.. صحى من النوم وباس على إيدى وقالى ادعيلى ومشى.. أنا لو أعرف إنه دى آخر مرة أشوفه فيها مكنتش سبته مشى من جنبى.. يا فزعتك يا بنى. آخر مرة كلمنى يوم الأربع اللى فات وقالى أنا جاى يا ماما بكرة هقعد معاكى شوية.. دى مش عادته إنه ييجى الخميس.. بس أنا فرحت واستنيته.. وصحيت الصبح مرضيتش أفطر غير لما هو ييجى.. ابنك مات. ضربة شديدة عليا ومصيبة تقيله.. إزاى.. لسه مكلمنى.. بسرعة اتصلت على والده، كلمنى تانى وقالى إن «على» فى قسم الجيزة.. رحت على هناك بسرعة.. أول ما دخلت لقيت حسام أنور، رئيس المباحث، واقف بيقولى: إنتى قريبة «على»، قلتله ده أنا أمه.. لقيته بيبكى ويقولى: البقية فى حياتك.. وبعدين رحت شفته فى المشرحة يا حبة عينى.. والله العظيم أنا لو معاى 100 ابن مش هيعوضونى اللى راح.. «على» مات قبل ما يحقق أى حلم.. أنت تعرف لما « على» اتقتل يا حبة عينى كلهم سابوه ونزلوا من الأتوبيس.. ملقيش حد معاه، ملقيش حد ياخده فى حضنه.. سابوه ينزف.. يعنى أنت يا «على» ملقيتش حد يقولك سلامتك.. يارب اللى سابوه يدوقوا نارى.. وبعدين إزاى يسيبوا أى حد شايل سلاح فى الشارع كده.. إيه الفوضى اللى إحنا فيها دى.. لو مش قدها سيبوها لأى حد ينفع. زمايله فى المدرسة بطلوا يلعبوا كورة من يوم ما مات.. مسامحاك يا بنى بعدد حصى الأرض.. الله يرحمك يا «على». بجانب الأم الثكلى، جلس الأب يشكو همه ويرثى نجله وقال: «على دا كان دراعى اليمين.. عمره ما غلط فى حد ولا ضايقنى فى حاجة.. آخر إجازتين مكنتش أشوفه.. عمرى ما اتصلت عليه وفتح عليا.. مصيبتى فيه كبيرة.. لما عملت أكتر من عملية بدأ يساعدنى فى الشغل عشان العيشة الغالية دى.. إزاى لما واحد يضرب بالنار محدش يسعفه.. ابنى لما اضرب بالنار، الناس جريت من الأتوبيس والسواق، وداه مستشفى الطلبة وأم المصريين وقصر العينى ومفيش حاجه قبلته.. ده فى شرع مين.. يمكن الدقيقة كانت فرقت معاه.. وبعدين السلاح اللى الناس شايلاه فى الشارع دا هنعمل فيه إيه.. أنا خلاص دراعى اتكسر.. «على» مات.