لا تتوقف الألسنة عن الحديث عن ضرورة «استعادة روح أكتوبر»، مع حلول ذكرى الحرب المجيدة، لدرجة أن هذه العبارة تحولت إلى تيمة نتوقع أن نسمعها مع كل ذكرى. مصطلح «روح أكتوبر» تم سكه كتعبير عن الأداء الاستثنائى الذى ميز المصريين خلال أيام الحرب، كان الأداء بالفعل استثنائياً لدرجة مكنت القوات المسلحة والشعب من القفز على ضعف وأحزان ومهانة وانكسار الهزيمة فى يونيو 1967، وتحقيق النصر بأقل إمكانيات يستطيع جيش أو شعب أن ينتصر بها على عدو متغطرس بتفوقه والدعم الأمريكى والغربى غير المحدود له. استطاع المصريون أن يفعلوها وعبروا القناة وحطموا خط بارليف، ومن يومها لم يفعلوا شيئاً.. أتدرى لماذا؟.. دعنى أجيبك!. كل من عاصر فترة ما بين حربى يونيو 1967 وأكتوبر 1973 يدرك حجم الإحساس بالحسرة والمرارة والحزن الذى اعتصر قلوب المصريين حينذاك. عبر المصريون عن هذا الإحساس بالنكات وبالخناق وبجلد الذات وبالبكاء المر، أذكر أن رجالاً ب«شنبات» كانوا يولولون على ما حدث، كما تولول الأم الثكلى على ابنها. عاش المصريون إحساساً استثنائياً خلال هذه السنوات الست، فقدوا إحساسهم بالبهجة الذى اعتادوا عليه، أصبحت أغانيهم أقرب إلى النواح، وشعرهم نكئاً للجراح، وحواديتهم حسرة، وحوارهم تبادلاً للعنات. عصرتهم الهزيمة عصراً وأفاقتهم من حالة الغيبوبة التى كانوا يعيشون فيها. قديماً قيل: الأزمة تلد الهمة. وتقديرى أن هذه المقولة تعبر بكل الصدق عن الحالة التى انتابت المصريين بعد الهزيمة، كان إحساسهم بها شديد العمق، إلى درجة دفعتهم إلى فعل المستحيل لكى يخرجوا من محنتهم.. وفعلوها فى 6 أكتوبر 1973. ليس شرطاً أن تلد كل أزمة همة. كما أنه ليس من الضرورى أن يؤدى كل ظلم إلى فورة. المسألة فى الإحساس. كم من أزمات عاشها المصريون قبل وبعد نصر أكتوبر، لكنها لم تنغرس فى إحساسهم، لذا فقد عاشوا بها، ثم أضافوا إليها أزمات جديدة، حتى أصبح مخزونهم من الأزمات أعلى من أى مخزون. كثيرون الآن يحاولون استنهاض روح أكتوبر لدى المصريين، ليس ذلك جديداً، فهو طقس يمارسه الساسة والإعلاميون كل عام، ينادون وينادون، لكن روح أكتوبر لا تجىء، وظنى أن هؤلاء سينادون طويلاً، دون أن يجيب أحد. المشكلة أن بعضاً ممن هؤلاء ساهم -بطريقة أو بأخرى- فى إفقاد هذا الشعب حساسيته. نعم، منذ عام 1973 أصبح المواطن المصرى، مثل لاعب الكرة الذى فقد حساسية المباريات، وبالتالى أصبح إحساسه بالأزمات بليداً، خصوصاً أنه يجد باستمرار من ينصحه بالتعايش معها. المصريون عام 1973، غير المصريين عام 2016، جيل كان يحس ويشعر فهزم الهزيمة، وجيل هزمته همومه. بقايا الإحساس الذى ميز جيل أكتوبر، هو الذى دفع المصريين بعد ذلك إلى الخروج ضد قرارات الرئيس المنتصر، عندما ارتفعت الأسعار نتيجة إلغاء الدعم عام 1977، لم تكن مظاهرات المصريين يومها تمرداً على رئيس، أو رغبة فى إزاحته، لكنها كانت تعبيراً عن إحساسهم بالظلم، من قرار اتخذه صاحب قرار العبور.. ألم أقل لك.. إنها مسألة إحساس..!.