أعرف صديقاً ميسور الحال توفى والده بسبب ذلك المرض الخبيث.. ومن الذى لا يملك قريباً أو صديقاً لم ينل منه ذلك الوحش الذى يجثم على صدورنا.. لقد تعود بعدها كل عام أن يخرج زكاته السنوية فى معهد الأورام القومى.. الأمر يعطى له إشباعاً نفسياً أنه يساعد آخرين يعانون من نفس المرض الذى كان سبباً فى وفاة والده.. لقد تعود كل عام فى رمضان أن يذهب إلى معهد الأورام ويتبرع بقيمة زكاته كاملة فى خزينة المعهد فى هدوء.. ثم ينصرف.. استمر الأمر حتى العام الماضى.. حين ذهب كالمعتاد.. ولكنه لاحظ أن الموظف الذى يتلقى المال فى خزينة المعهد يماطل بلا سبب مقنع! الأمر أصبح مستفزاً.. فقد استغرق وقتاً طويلاً دون داع.. حتى وجد الموظف يهمس له بصوت خفيض: - باشا.. انت عاوز الفلوس دى توصل للغلابة اللى فوق فعلاً؟ كان رده: أيوه طبعاً.. فاستطرد الموظف بصدق حقيقى: يبقى اطلع وزعهم فوق بنفسك أحسن!! الموقف كان صادماً للرجل فعلاً.. حتى إنه انصرف من المعهد دون أن يتبرع بشىء! القصة تحمل معانى كثيرة للغاية.. ربما كان أولها وأهمها أن الموظف نفسه الذى يعمل فى المكان فاقد للثقة فى «ذمة» الحكومة.. وفى أنها ستنفق المال على ما يفيد المرضى بالفعل! الأمر خطير فعلاً.. فالموظف مثله مثل باقى المصريين.. فقد ثقته فى الحكومة.. وفى وزارة الصحة بالكامل.. فكيف تطلب من المواطنين العاديين أن يثقوا فيها؟! إنه نفس السبب الذى يجعل تلك المستشفيات التى تقوم على التبرعات فقط مثل 57357 ومركز مجدى يعقوب وغيرهما تجمع تبرعات كثيفة تكفى لتشغيلها واستمراريتها لفترات طويلة.. بينما تجد مستشفى مثل 500500 لم يتمكن من جمع نفس المبالغ! لقد وثق الناس فى تلك المؤسسات لأنها خارج سيطرة الحكومة تماماً.. فلا سيطرة أو إشراف حكومى على الإدارة أو طرق العلاج.. المشكلة أن تلك المستشفيات مهما بلغت براعتها وحجمها فإنها تعانى من عيوب خطيرة.. أولها أنها تخدم عدداً محدوداً من الحالات.. مع ضوابط كثيرة لقبول الحالات نفسها.. فهى لا تقبل حالات متقدمة مثلاً.. ولا تقبل أى حالات ميئوس منها وذلك لضمان رفع نسب الشفاء لديها.. بينما تقف المستشفيات الحكومية عاجزة عن رفض أى حالة.. وبميزانية تقل كثيراً! أعرف طبيباً أخبرنى بأنه يحاول تحويل حالات لمستشفى 57357 منذ زمن ولكنه يجد أن الحالات التى يرسلها تعود بحجة أنه لا يوجد سرير فاضى.. المفاجأة أنه منذ فترة قصيرة قابل من يجمع التبرعات لها.. وعندما سأله عن نسب الإشغال وجد إجابة غريبة.. فقد رد عليه أن الأسرة الخالية متوفرة باستمرار! وأنه إن أراد إرسال حالة فليتصل به وسوف يرتب له الأمر! يبدو أن الواسطة لم ترحم حتى تلك المؤسسات! كنت أعرف أن الأمر سيصل إلى هذا الحد يوماً ما.. وقد وصل بالفعل!! الموضوع يزداد كل عام عن العام الذى قبله.. وقريباً ستعتمد الصحة فى ذلك الوادى الطيب على ميزانية التبرعات التى يتم توجيهها لهيئات غير حكومية.. والتى تتحكم فيها أهواء شخصية للبعض الذى يختار من سيحظى بفرصة للعلاج المجانى! لقد أصبحت وزارة الصحة تحظى بسمعة أقل ما يقال عنها إنها سيئة.. الأمر يزداد كل يوم دون أى تحرك حكومى.. وكأن الأمر على هوى الحكومة التى «ما صدقت» أن ينزاح هم كهذا من على كاهلها! أخشى أنه لو استمر الأمر بهذه الصورة ستخرج الصحة من مسئولية الحكومة تماماً.. وهو أمر أعتقد أنه يتعارض مع وجود كيان يدعى بالدولة! منذ عام مضى كنت قد قدمت اقتراحاً للمهندس إبراهيم محلب أن توضع أموال تلك التبرعات تحت رقابة حكومية كاملة.. وأن يتم توزيع المبالغ نفسها تحت إشراف من الوزارة المسئولة عن كل مريض فى مصر! لقد لاقى الاقتراح إعجابه وقتها.. ثم لم يحدث شىء.. فإلى متى سنظل هكذا؟!