ربما ليست المرة الأولى التى أطرق فيها هذا الموضوع.. ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة.. فلن أملَّ من الحديث عن تلك المشكلة أبداً.. التى أعتقد أنها لا تبتعد عن الأمن القومى كثيراً.. إن لم تكن من صلبه! الأمر يتعلق بمنظومة الرعاية الصحية فى مصر.. وتحديداً تلك المستشفيات الخيرية التى انتشرت خلال العشر سنوات الأخيرة.. والتى كان مستشفى سرطان الأطفال 57357 أولها ولكنه لم يكن آخرها..! إنها تلك المستشفيات التى ترى إعلاناتها ليلاً ونهاراً على شاشات التلفاز.. والتى تدعو المشاهدين للتبرع لها لإنقاذ طفل مريض.. كلهم لديهم طفل ما يعانى من مرض معين ويحتاج للمساعدة! وكأن الرعاية الصحية فى مصر قد انتهجت سياسة «عشانا عليك يا رب»!! والطبيب قد تحول من صورته الراقية وهو يرتدى معطفه الناصع البياض إلى عجوز مهلهل الثياب يبتسم فى لزوجة وهو يقول: «كل سنة وانت طيب يا باشا»!! الأمر لا يتعلق بجدوى تلك المستشفيات.. فقصور الرعاية الصحية فى هذا الوادى الطيب.. ومحدودية موارد الوزارة المسئولة عن صحة المواطنين.. تجعلها جزءاً مهماً لا يتجزأ من المنظومة.. ويجعل وجودها حتمياً.. والخدمات التى تقدمها لمرضاها بالمجان لا يجدونها فى مستشفيات الوزارة المجانية التى أعرف إمكاناتها جيداً.. ولكن المشكلة تختلف عن كل هذا.. المشكلة تكمن فى عدم عدالة التوزيع.. نعم.. ففقدان الثقة بين المواطن والحكومة يجعله يتوقف كثيراً قبل أن يتبرع لمستشفى حكومى.. ويجعله يقبل على التبرع لهذه المستشفيات بحماس شديد.. إنه يؤمن أن ماله سيذهب لمريض يحتاجه فعلاً.. والدليل أن مشروع مستشفى معهد الأورام الجديد 500500 لا يجمع تبرعات مثلما تفعل باقى المستشفيات..! الأمر الذى لا يعرفه المواطن -أو لا ينتبه إليه- أن تلك المستشفيات تخدم عدداً محدوداً جداً من المرضى.. ربما لا يتجاوز المئات شهرياً.. إنهم يختارون مرضاهم بعناية شديدة.. بهدف رفع نسب الشفاء لديهم.. مما يجعلهم ينفقون على علاجه جيداً بالفعل.. ومما يجعل التبرعات تذهب فى كثير من الأحيان فى خدمات غير ضرورية للمريض.. بمعنى أن المريض المستفيد يستغل مبلغاً أكبر بكثير من احتياجه الفعلى.. وفارق هذا المبلغ يمكن أن يستفيد به مريض آخر فى مكان آخر!! هل تتفهم هذه الجزئية يا صديقى؟! الطريف أننى أعمل فى مستشفى حكومى.. وأعرف جيداً ما يمكن أن تقدمه التبرعات لخدمة المرضى.. بل لإنقاذ حياة البعض منهم بالفعل.. لن أشير بالطبع إلى تكلفة الإعلانات الباهظة عن تلك المستشفيات.. فمبلغ الدعاية وحده كفيل بالإنفاق على مستشفى كامل.. أذكر أن صديقاً يعمل فى مستشفى سرطان الأطفال قد صرح لى بأن الجنيه الذى يتم إنفاقه فى الإعلانات تحديداً يدر عليهم أكثر من مائة جنيه من تبرعات أهل الخير.. النسبة هكذا فعلاً..! الفكرة هى أنه طالما الأمر بهذه الصورة.. فلمَ لا يتم تخصيص نسبة من تلك التبرعات لصالح مستشفيات الوزارة المكلومة؟.. لماذا لا يتم فرض ضريبة على المبالغ المحصلة فى حسابات تلك المستشفيات تخصص للمستشفيات التى لا تجد من يتبرع لها.. لأنها لا تملك الميزانية الكافية للإعلان عن نفسها.. ولا تملك اختيار الحالات التى تعالجها أيضاً! الفكرة قد تم طرحها على المهندس إبراهيم محلب من قبل.. ولاقت استحسانه وقتها.. ولكننا نعيش فى وطن لا يملك منظومة لتوارث الأفكار.. فالوزير الجديد لن ينفذ أفكار الوزير السابق.. والفكرة مهما كانت جيدة.. فإنها تموت مع أصحابها إذا رحلوا!! أعرف جيداً أن الحديث فى هذا الموضوع ربما يجلب لى النقد العنيف.. ولكننى أرجو أن ينظر الناس إلى الأمر برمته.. ويتذكرون المرضى الذين لا يتلقون علاجهم فى تلك المستشفيات.. فهم يحتاجون أيضاً للتبرعات.. بل ربما بصورة أشد بكثير!