من بين التداعيات الإيجابية الهائلة التى تمخضت عنها ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وبرأسها أطلت، ظاهرة «الجماهير بلا قيادة»، أو ما يعرف فى علم الاجتماع السياسى ب«اللاحركات اجتماعية» أو فى أصول النظم السياسية المقارنة ب«السياسة من أسفل». وهو ما يعنى صعود دور قوى شعبية مؤثرة فى مسار العملية السياسية من خارج الأطر التنظيمية والوسائط السياسية التقليدية المعروفة كالأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدنى؛ حيث أقدمت قطاعات متعددة من القاعدة الشعبية العريضة على المبادرة بالفعل السياسى وتوجيه مسار التفاعلات السياسية من أسفل، حيث محيط الجماهير غير المنضوية تحت لواء أى تنظيمات سياسية وليس من أعلى؛ حيث مستوى الفاعلين السياسيين التقليديين كالنخب السياسية أو الأحزاب وقوى المجتمع المدنى. فمن بين جموع المتظاهرين المعارضين لقرارات الرئيس مرسى ومسودة الدستور الجديد، ووسط الحشود التى زحفت إلى محيط قصر الاتحادية وميدان التحرير، إبان أزمة الإعلان الدستورى وخلال إحياء الذكرى الثانية للثورة، لاحت مجموعات من المحتجين نأت بنفسها عن التفاهمات والحوارات التى كانت تتم بين الرئيس ومعارضيه، وأصرت على مواقفها المطالبة بإلغاء الإعلان الدستورى ووقف الاستفتاء على مسودة الدستور الجديد، ثم تشكيل حكومة إنقاذ وطنى وتعديل الدستور وقانون الانتخابات الجديدين، وحينما تأخر الرئيس مرسى فى الاستجابة لمطالبها، وبدا لها أنه يتحايل عليها على غرار ما كان يفعل مبارك، رفعت من سقف مطالبها وأعلنت عدم اكتراثها باستجابة الرئيس لتلك المطالب من عدمه، مؤكدة عدم تنازلها عن رحيل الرئيس وإسقاط النظام. وبذلك، تكون ثورة يناير 2011 قد أفرزت فاعلين سياسيين جددا يمارسون دورا معارضا من خارج الأطر المؤسسية والوسائط التقليدية، تتمثل فى جموع الشباب غير المنضوية تحت لواء أى تنظيمات حزبية أو أهلية، والتى ليست لها قيادة واضحة أو أيديولوجية محددة، لكنها تتلاقى، على نحو غير مرتب، حول حزمة من الأهداف، ثم تتبع سياسة الحشد الجماهيرى والتعبئة الشعبية لممارسة الضغوط على النخبة الحاكمة من أجل تحقيق تلك الأهداف. وليست هذه الظاهرة مصرية صرفة، وإنما هى عالمية بامتياز؛ إذ عرفتها دول عديدة حول العالم خلال السنوات القليلة المنقضية، كما لم تكن ترتبط بالضرورة بثورات أو هبات أو انتفاضات شعبية. وربما ساعدت على انتشارها ثورة الاتصالات وتفاقم دور العالم الافتراضى فى التواصل الجماهيرى، وقد بدت جلية فى حركة «احتلوا وول ستريت» للمطالبة بتغيير النظام الاقتصادى واتباع سياسات اقتصادية أكثر عدلا بالولايات المتحدة، وكذا «حركة الطلاب»، التى ظهرت فى بريطانيا للمطالبة بتعديل الرسوم الدراسية لطلاب الجامعات. وفى خضم هذا الزخم الجماهيرى والسياسى، الذى تزامن مع تراجع هيبة الدولة وتهاوى قبضة مؤسساتها الأمنية، ظهرت مجموعات شبابية بأسماء مختلفة، تجنح إلى العنف وتتحدى الدولة والوسائط السياسية، مستفيدة من ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعى الحديثة. وهى ظاهرة عالمية أيضا وليست بالمستحدثة حتى فى بلادنا. وبقدر ما ينطوى عليه بروز فاعلين سياسيين سلميين جدد من انعكاسات محمودة على الوضع السياسى الراهن فى مصر، كونه يعبر عن حالة حراك اجتماعى إيجابية يمكن أن تثرى بدورها التفاعل السياسى الإيجابى وتنشط عملية التحول الديمقراطى، فإن تزامن ذلك مع ظهور المجموعات الشبابية الميليشياتية الملثمة التى تميل إلى العنف وتحدى الدولة إنما يطوى بين ثناياه مخاطر شتى على المجتمع والدولة فى آن. فعلاوة على أن تلك المجموعات تهدد السلم المجتمعى كونها تنذر بتحول المنافسة السياسية السلمية إلى صراعات وحروب أهلية، فإنها عرضة للسيطرة والتوجيه من قبل بعض العناصر التخريبية أو الجهات المغرضة، للنيل من الثورة كما وحدة الدولة أو سلامة الشعب واستقرار النظام. وبناء عليه، يستوجب الأمر تحركا تضامنيا من قبل جميع الفعاليات الرسمية والشعبية بغية ترشيد هذه الظاهرة بما يساعد على تحويل هذه الجموع الغفيرة من عنصر تهديد للاستقرار والسلم المجتمعيين، إلى قوة دفع تعين على استمرار الحراك السياسى البناء واستكمال أهداف الثورة السلمية وإتمام عملية التحول الديمقراطى بأقل تكلفة ممكنة.