لماذا اختار أسامة أنور عكاشة حى «الحلمية» بالذات ليقدم من خلاله تشريحاً سياسياً واجتماعياً للمجتمع المصرى منذ ثلاثينات القرن الماضى، وحتى أصبح حياً شعبياً فى فترة حكم الرئيس مبارك؟. كيف استطاع أن يعبّر عن كل هذه المتغيرات، وكيف انعكست على شخوص مسلسله؟ استهل أسامة رده بالتنويه إلى «شخصية زينهم السماحى» (سيد عبدالكريم) التى تتحول بالتدريج إلى طيف أو خيال، ليس أكثر. - عندما اخترت «الحلمية» بالتحديد اخترتها لأنها حى فريد من نوعه فى التطورات التى حدثت فيه. فى وقت ما، كان «الحلمية» أرقى حى أرستقراطى فى مصر. كان سكن الباشوات والأمراء. ثم تغير الحال وبدأت هذه الطبقة تهجره، مفسحةً المجال لطبقة العمال والعوالم، إلى أن أصبح حياً شعبياً عادياً مثل السيدة والدرب الأحمر وغيرهما، وهذا ما حدث فى مصر. الفرز الطبيعى فى مصر أصبح فى الوقت الحالى مسألة بالغة الصعوبة. أنت لا تستطيع أن ترسم خريطة طبقية للمجتمع المصرى بالمعنى الكلاسيكى للطبقات. فالأرستقراطية الآن أصبحت مجموعة من «الهبّيشة واللصوص»، ولم تعد كما كانت: طبقة لها تقاليد ومصالح وجذور. والطبقة الوسطى «انفلشت واعرضّت»، وبدأت تضم فئات دخيلة. قبل ذلك كان هناك فرز واضح. كانت توجد بالفعل طبقة الإقطاعيين والرأسماليين بما لهم من جذور وأصول، والطبقة الوسطى العليا التى تضم كبار موظفى الدولة والمهنيين كالأطباء والمحامين والمهندسين، والطبقة الوسطى الصغرى التى تضم صغار الموظفين وكبار العمال، ثم تأتى الطبقة الدنيا التى تضم الأجراء وعمال التراحيل والفلاحين. كل ذلك لم يعد موجوداً الآن، وتحديداً منذ قرارات يوليو الاشتراكية فى مطلع الستينات، وإن كانت قد سبقت ذلك محاولة من جانب عبدالناصر -فى بدايات الثورة- لتذويب الفوارق بين الطبقات، وهو ما نص عليه الميثاق ولم يكتمل. فتحول التذويب إلى «تمييع»، وأخفقت الثورة فيما سُمى بمحاولة «تأميم» الصراع الطبقى، وكانت النتيجة وصول المجتمع المصرى إلى حالة «الانفلاش» الغريبة التى نراها. ■ عندما سألت «نازك السلحدار» (صفية العمرى) زوجها السابق «سليم البدرى»: إيه اللى عاجبك فى الحلمية؟.. أجاب: الحلمية دى «حالة». ماذا كان يقصد.. أو ماذا تعنى أنت بصفتك المؤلف؟ - إذا وضعنا هذا الكلام فى سياق الشخصية التى تقوله سنجد أن «الحلمية» تمثل العصر الذهبى لسليم البدرى، أيام أن كان هناك سراى فى الحلمية، وكان له فيها مصنع، وكان نائباً لدائرتها. ف«الحلمية» هى الماضى الجميل بالنسبة لسليم. الماضى الذى عاشه ويحلم به ولا يجده. هذه هى الحالة التى كان يقصدها. الحالة بالنسبة له ليست مجرد مكان. و«الحلمية» التى يقصدها هى التى يعرفها وكبر فيها ومارس سطوته ونفوذه فى إطارها. هذا هو معنى الجملة التى قالها ل«نازك». فهى ليست كلمتى أنا كمؤلف، ولا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظرى. ■ بالمناسبة.. ما زالت شخصية «سليم البدرى» تثير الجدل. هذا الباشا الوطنى، الذى أخذت منه الثورة معظم أملاكه، ورغم ذلك لم يبخل بالتعاون مع رجالاتها عندما كان بإمكانه ذلك!. هى شخصية شديدة التعقيد، والكلام حولها لا ينتهى.. - أنا أنظر إلى الشخصية من خلال الدراما التى فى داخلها، ولا أقصد إلباسها ثوباً معيناً. وأنا فى الأساس معترض تماماً على عملية «التنميط» التى تجعل من الباشا شخصية كريهة ومتآمرة. ربما كان ذلك جائزاً ومقبولاً بعد قيام الثورة مباشرة، على أساس أن هؤلاء الباشوات هم المستهدفون، وأن الثورة قامت لتغيّر، ومن ثم كان مباحاً -من باب الدعاية على الأقل- أن نلعن «سنسفيل» الباشوات. إنما الآن لا بد من تصحيح الأمور. لا بد أن نعرف أن الباشوات ليسوا كلهم «أتراك»، وليسوا جميعاً عملاء للسراى والإنجليز، وأن هناك باشوات مصريين: صحيح لهم مصالحهم الطبقية التى يهمهم المحافظة عليها.. إنما حتماً ولا بد لهم ولاء لبلدهم. أريد هنا أن أوضح مسألة مهمة. أنا لم أعتنق وجهة نظر ثورة يوليو بالنسبة ل«سليم البدرى»، أو الطبقة التى يمثلها. لكننى تعاملت معه كشخص من الممكن أن يكون مصرياً ووطنياً جداً، ومن الممكن أن يكون «جربوع وابن ستين كلب». انتماء «سليم» لطبقة الباشوات لا يعنى بالضرورة أنه فى مواجهة مع بلده. هناك طبقة تعاملت معها الثورة على أساس أنها طبقة فاسدة، لكن رأى الثورة ليس ملزماً بالنسبة لى. أنا ملتزم فقط بمدى «درامية» الشخصية، وبقدرتى على أن أجعلك تصدقها. وبعدين.. لماذا ننسى رجلاً مثل «محمد فرغلى باشا»؟. «سليم البدرى» فى رأيى تنويع على شخصية «فرغلى باشا». وأنت تعرف أن هذا الرجل -رغم كل ما فعلته معه الثورة- ظل صديقاً لعبدالناصر، وظل يدافع عن عبدالناصر حتى بعد وفاته، وألّف كتاباً قال فيه كلمة حق فى عبدالناصر رغم أنه باشا. ■ قلت لأسامة وأطلت عامداً: شخصية سليم البدرى أثارت فى الواقع تعاطف وإعجاب الجميع، ومن ثم قد تخلق وعياً مضاداً للفكرة التى رسخت فى أذهان الناس عن طبقة الباشوات، وهى أنهم «أشرار.. لا تأخذهم رحمة بأحد فى الحفاظ على مصالحهم». وإذا كانت الثورة فى بدايتها قد استهدفت عموم الباشوات، فهذا أدعى الآن للمحافظة على موقف الطبقات الأخرى منهم. أولاً لأن باشوات العصر الحالى إما «لصوص وهبّيشة» كما تقول، وإما بقايا نفس السلالة التى استهدفتها الثورة. وفى كلتا الحالتين، وحيث لم يعد هناك فرز طبقى، يصبح من المستحيل ومن غير المنطقى واقعياً أن تحاول الآن مدّ جسور من الثقة والود بين «غنى» لا يخلو من روح انتقامية، و«فقير» لا حول له ولا قوة. ثم -وهذا هو الأهم- سليم البدرى استثناء وليس قاعدة، شأن فرغلى باشا.. ودعك من أن الدراما تتعامل مع الاستثناء، فالأمر هنا مختلف!. .. وغداً يتجدد الحوار