بعد يومين، وفى الخامس عشر من هذا الشهر (يناير) تكون الحياة قد قضت خمسة وتسعين عاماً منذ ميلاد جمال عبدالناصر، أحد أهم رجالات القرن العشرين العظام.. رجلٌ منح حياته لوطنه وشعبه الذى أجبره على البقاء حين أراد أن يتنحى.. فى حين هتفت ضد غيره حتى تخلّى.. رجلٌ تختلف معه ولا تختلف عليه.. قام بواجبه ومضى مكللاً بالغَار، لا بالعار، مثل لاحقيْه، ودّعه شعبه، رغم انكساره فى العام السابع والستين، بالملايين، فى سابقة لم تشهدها مصر إلا مع ثورة الخامس والعشرين. لم تكُن السينما بعيدة عن عبدالناصر، عشقها وراح يمضى ليالى كثيرة فى رحابها، وبات موضوعاً للعديد من أفلامها، قبولاً أو رفضاً، حباً أو كراهية، تأييداً أو معارضة، أخذاً بالأسباب وتحليلاً للنتائج، أو إطلاق أحكام جائرة قائمة على مقدمات قاصرة. فى كتابهما القيّم «عبدالناصر والسينما» يحاول أستاذ الفنون الليبى د. جمعة قاجة والناقد الفلسطينى بشار إبراهيم رصد وتحليل الأعمال السينمائية الروائية التى تناولت عبدالناصر فى حياته وبعد وفاته، فى لحظات الانتصار والانكسار، وماذا قدّمت ثورة يوليو للسينما فى عهده. على غير ما يرى بعض المتنطعين الآن، احترم «ناصر» الفن والفنانين ومنحهم الأوسمة والنياشين، وأولى السينما رعاية ودعماً بداية من إنشاء صندوق للدعم وانتهاء بتجربة القطاع العام التى تم تشويهها عن عمد رغم أنها لم تستمر سوى ثمانية أعوام قدمت فيها 26 مخرجاً جديداً من خريجى المعهد العالى للسينما ومن خارجه وهو رقم غير مسبوق إضافة إلى إنتاج 159 فيلماً جاء ثلاثون منها ضمن أفضل مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية. على الجانب الآخر، أظهر الكاتبان العربيان صورة لسماحة عبدالناصر تجاه بعض الأفلام التى لامسته شخصياً وصوّره أحدها «شىء من الخوف لحسين كمال 1969» كأنه رئيس عصابة، وسخر آخر «ميرامار لكمال الشيخ 1969» من تنظيمه السياسى «الاتحاد الاشتراكى» ولمَّح ثالث «المتمردون لتوفيق صالح 1968» إلى عجز الثورة عن العمل لصالح الشعب، بل ويدعو إلى الثورة على الثورة وقائدها الطبيب الذى يرمز إلى عبدالناصر مباشرة، كما أن معاول الهدم الحادة قد انهالت عليه وعلى نظامه فى الفترة الساداتية نقداً أو نفاقاً وتزلفاً للعهد الجديد الذى حاول أن يبنى مجداً زائفاً على أنقاض العهد السابق فظهرت مجموعة من الأفلام أُطلق عليها «أفلام مراكز القوى» أو سينما «التشهير السياسى» تناولت التجاوزات والانتهاكات التى قامت بها الأجهزة الأمنية بدعوى حماية الوطن مثل «كرنك على بدرخان 1975» الذى كان بداية لظاهرة السينما المضادة التى عرفت باسم «الكرنكة» و«إحنا بتوع الأتوبيس لحسين كمال 1979» الذى رأى المؤلفان أنه كان «أكثر دموية ومجانية وعبثية (.....) ولم يقدِّم (...) سوى الشتم والذم والقدح، وصلت إلى حد التشفى والشماتة فى عبدالناصر والقوات المسلحة المصرية»، وتوالت الأفلام «طائر الليل الحزين ليحيى العلمى 1977» و«امرأة من زجاج لنادر جلال 1977» و«وراء الشمس لمحمد راضى 1978» و«العرّافة لعاطف سالم 1981» وغيرها تهيل التراب على الفترة الناصرية وقائدها. لا شك أن هذه الانتهاكات اللاإنسانية قد لطخت ثوب الإنجازات المقدَّرة للثورة فى مجال العدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى، وهو ما حاولت بعض الأفلام أن تُنَبّه إليه -على استحياء- فى عهد مبارك فكان «ناصر 56» لمحمد فاضل «1996» إحياء لواحد من أهم المواقف الوطنية فى تاريخ مصر المعاصر حين أمم جمال عبدالناصر قناة السويس عام 1956، وقدّم الفيلم «درساً وكشفاً للكثير من حياة ناصر ونبضاته وهمومه واهتماماته وشعوره الوطنى الكبير».. حظى الفيلم بنجاح جماهيرى أثار حنق مبارك نفسه، وهو ما لم يحققه فيلم أنور القوادرى «جمال عبدالناصر» (1999) بسبب ضعفه الفنى وإصرار صُنَّاعه على أن يقدموا سيرةً ذاتية لناصر من خلال الثلاثين سنة الأخيرة من حياته وهى فترة طويلة محتشدة بالأحداث كان من الصعب أن تستوعبها الدراما فى ساعتين مما أثقل على بنية الفيلم. منح عبدالناصر الوطن حياته فأسبغ الشعب عليه حبّه، وودَّعه بالشدو الحزين، «يا جمال يا حبيب الملايين»، ورفع صورته -فى ثورة يناير- فوق كل الميادين!!