عرف التاريخ المصرى ظاهرة الانتحار السياسى؛ سواء فى لحظات الصدمات الخارجية الكبرى كهزيمة يونيو 1967، التى كان أشهر منتحريها المبتهج المكتئب العظيم صلاح جاهين، أو لحظات اليأس الوطنى فى مواجهة حاكم مستبد، كلحظة يناير 2011 التى بدأت إرهاصاتها المبكرة جداً بنوع من وقائع «الانتحار الثقافى» يأساً من النظام، التى كان أشهرها مقال الأستاذ هيكل «استئذان بالانصراف»، ورفض المبدع صنع الله إبراهيم جائزة الدولة قبل الثورة بعدة أعوام. فى يناير 2011، كانت مشاعر الإحباط الكامل قد وصلت للمواطن العادى، لا أحد ينسى محاولات الانتحار حرقا أمام البرلمان، التى تطورت نوعياً لتتخذ صورة الصمود الانتحارى أمام الآلة الرهيبة للداخلية التى انكسرت لأول مرة فى التاريخ المصرى. خلال عامى الثورة، وبسبب انكسار وتبخر حلم الثورة المدنية الديمقراطية، وتحول مصر إلى غنيمة يتناحر على أشلائها الإخوان والعسكر والفلول، عانى الكثيرون من مثقفينا ومبدعينا ما يسميه الطب الحديث متاعب «نفس - جسدية»، أى أعراض مرضية جسدية ذات أصل نفسى، انتهت برقود المبدع محمد المخزنجى فى المستشفى، وبانهيار مناعة المفكر سامر سليمان، الذى فقدناه منذ أيام. خلال الأسابيع الأخيرة، شهد ميدان التحرير سلوكاً «شبه انتحارى» لمواطنات أقدمن على قص شعورهن علناً، كما شهدت ساحة قصر الاتحادية أول محاولة انتحار لمواطن حاول حرق نفسه عَوَزاً، كما وزع مواطن بالدقهلية منشوراً يعلن فيه كفره -والعياذ بالله- مطالباً بالهجرة لإسرائيل، بسبب عجزه عن توفير العلاج لزوجته المريضة بالسرطان. إذا كان انتحار المثقف والمواطن هو انتحار فردى يائس بالمعنى المادى للكلمة، فإن انتحار التيارات أو الأحزاب أو النظام الحاكم هو «انتحار سياسى» بمعنى الكلمة، إنه لحظة الإقدام على اتخاذ قرار سياسى أو اقتصادى خطير، ينطوى على قدر كبير من المخاطرة، قرار إما أن ينتهى بالفوز بكل شىء أو بخسارة كل شىء. منذ فترة، يتبادل التياران الإسلامى والمدنى وصف كل منهما لسلوك الآخر بأنه «انتحار سياسى»، اعتبر إسلاميون أن اتباع قيادات التيار المدنى لنهج الرفض المتواصل لكل قرارات الرئيس، ودعوات الحوار، ودعوتهم لمقاطعة الاستفتاء، نوع من الانتحار السياسى، ناتج عن اغترابهم عن الشارع وانعزالهم عن الجماهير وتعاليهم عليها، وخشيتهم من أى احتكام لأصوات الشعب. فى المقابل، وجهت قيادات جبهة الإنقاذ الوطنى نفس الاتهام بالانتحار السياسى للرئاسة وللإخوان، نتيجة الإصرار على الإعلان الدستورى الاستبدادى، واتباع سياسة العناد، وتجاهل الحشود المعارضة، والإصرار على المضى فى الاستفتاء على الدستور دون توافق وطنى، والتهرب من التحقيق الجاد فى شكاوى التزوير، وتوفير غطاء إعلامى وسياسى لأنصار النظام السابق الفاسد، ولمحاصرة الإسلاميين لمؤسسات الدولة، والخضوع لشروط صندوق النقد، ورفع الدعم عن المواطنين فى هذه الظروف الصعبة. على العكس من الموقف الإيجابى لجبهة الإنقاذ الوطنى، التى أعلنت مشاركتها فى الانتخابات المقبلة للحصول على أغلبية مريحة تمكنها من إلغاء الدستور، تشير معظم القرارات السياسية التى تم اتخاذها، من جميع الأطراف، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى احتمال تحول البلاد لحالة انتحار وطنى عام؛ تعلن حركة شباب 6 أبريل يوم 25 يناير يوماً لإسقاط الدستور، وتتواتر أنباء عن نفاد صبر سلفيين وإخوان جراء سيطرة الشباب الثورى على ميدان التحرير، وخطط لإخلائه بالتعاون مع الشرطة. بالتنسيق مع حكومة الإخوان، وزارة الداخلية تتخذ قراراً بتأجيل موعد استئناف الدورى، ليوافق ذكرى مذبحة بورسعيد، تحديداً يوم 1 فبراير، وبعد أيام خمسة فقط من صدور الحكم المتوقع فى القضية، وكأن أطرافاً تجهز لمذابح أخرى قادمة لا يعلم مداها إلا الله!