إن أزمة سد النهضة صارت فى أحرج أوقاتها، فقد تم بناء ما يزيد على 60% من السد وأصبح ارتفاعه يزيد على 70 متراً وما زالت دراسات تداعيات سد النهضة على مصر (قصة وهمية) لم تبدأ بعد. إن الفترة الحالية التى نعيشها أراها تمثل مرحلة هدوء ما قبل العاصفة، أو مرحلة قرب انتهاء صبر أيوب الذى تمتعت به مصر فى المفاوضات، ولكننى من القلب أرجو بل أتمنى أن تمر هذه المرحلة بهدوء، وأن يتمكن المسئولون المصريون عن الملف بالوصول بهذه الأزمة إلى بر الأمان. وقد يتصور البعض سواء من الغرماء أو ممن نطلق عليهم بل نعتبرهم أشقاء، أن فى صبر المصريين ضعفاً، أو أنه يمثل تراجعاً عن مواقفها الثابتة نحو الحفاظ على حقوقها التاريخية فى مياه النيل. فمصر لم تستخدم بعد العديد من أوراقها، وما زال لديها الكثير، ومصر كانت وما زالت وستظل بإذن الله كبيرة قوية راسخة بغض النظر عما يحيط بها من مؤامرات خارجية وداخلية، وما يمر بها من أزمات صعاب ومشاكل مزمنة. إن ما أقوله ليس من باب التفاؤل أو من غلبة العاطفة، ولكنه مبنى على حسابات دقيقة، وعلى معلومات شخصية تؤكد أن القيادة السياسية جادة فى سعيها للحفاظ على حقوق مصر المائية. بلا شك أن المسار صعب وملىء بالعقبات، وليس كما كان يصوره لنا الوزير السابق بأن المباحثات فى أفضل حالاتها وأن 90% من الأزمة قد تم حلها. ولكن نجاح التحرك المصرى سوف يعتمد أولاً على الإرادة السياسية القوية، وعلى قدرة وتمكن وعزيمة المفاوض المصرى، وعلى إعداد فرق من التكنوقراط والقانونيين والسياسيين لدعم المفاوض المصرى بالدراسات والتحليلات والتحرك الدولى والإقليمى وإعداد البدائل ومقارنة الخيارات. ويتمثل الوضع الحالى للمباحثات الثلاثية، المتوقفة حالياً، فى توافق الدول الثلاث حول الاستشارى (الشركتين الفرنسيتين الاستشاريتين)، ولكن ما زالت هناك خلافات بين الدول حول العرض الفنى للاستشارى الذى نرجو أن يتم التوصل لحل له سريعاً. ومع الأمل من الانتهاء من هذا الخلاف الفنى قريباً، سوف يتم التعاقد مع الاستشارى والبدء فى الدراسات التى سوف تستغرق فترة فى رأيى لن تقل عن سنتين نظراً للخلافات العديدة المتوقع ظهورها حول توفير البيانات ونوعيتها والنتائج وتفسيراتها وسيناريوهات الدراسات وفرضياتها. وأثناء هذه الفترة الطويلة ستكون إثيوبيا فى الأغلب قد انتهت من بناء السد أو معظمه. والسؤال المهم هنا هو كيف تتصرف مصر خلال هذه الفترة الطويلة لضمان التزام إثيوبيا بما جاء فى إعلان المبادئ الذى وقعه رؤساء الدول الثلاث فى الخرطوم فى مارس من العام المنقضى؟ وماذا يجب على مصر أن تتخذه من إجراءات ومسارات لكى تحافظ على الحقوق المائية التاريخية والدفاع عن الأمن القومى للبلاد؟ هذا هو بيت القصيد، وهذا هو ما نحتاج فيه إلى كثير من الفكر والاجتهاد للوصول بالأزمة إلى بر الأمان. وفى هذا المقال أحاول طرح رؤية قد تفيد المسئولين عن ملف سد النهضة فى تحقيق ما نصبو إليه جميعاً من الحفاظ على حقوقنا المائية التاريخية. هناك خلاف بين مصر وإثيوبيا (ولا أعلم موقف السودان منه بدقة) حول طلب مصر بعدم البدء فى تخزين المياه أمام السد إلا بعد الانتهاء من الدراسات (التى لم تبدأ بعد) وبعد الاتفاق حول سنوات تخزين مياه السد وسياسات تشغيله. والطلب المصرى قائم على ما التزمت به الدول الثلاث فى إعلان المبادئ وتحديداً فى بنده الخامس «مبدأ التعاون فى الملء الأول وإدارة السد»، الذى ينص على ضرورة توافق الدول الثلاث على عدد سنوات ملء السد وعلى سياسات تشغيله على ضوء دراسات الاستشارى. ولكن إثيوبيا تصر على بدء التخزين مع الفيضان المقبل الذى سوف يبدأ فى شهر يوليو، وحتى قبل البدء فى الدراسات. إذا استمر هذا الإصرار الإثيوبى فسوف يؤدى إلى تقويض كامل لإعلان المبادئ، ومن المطلوب من المفاوض المصرى حينئذ عدم قبول ذلك تحت أى مسمى أو ضغوط حتى لو اضطر إلى الانسحاب من المباحثات. وهناك خلاف آخر مع إثيوبيا (ولا أعلم أيضاً موقف السودان منه) حول عدد فتحات السد للطوارئ، فإثيوبيا تصر على تنفيذ فتحتين فقط، بينما تطالب مصر بزيادتهما إلى أربع فتحات. وهذه الفتحات لها أهمية قصوى لتصريف المياه الكافية لمصر وقت سنوات الجفاف وكذلك فى أوقات الطوارئ فى حالة توقف التوربينات. والأمر يحتاج وقفة جادة من المفاوض المصرى، والمطالبة بدراسة استشارية مستقلة أو التحكيم الفنى لإيجاد الحل الذى يرضى كافة الأطراف، وعلى وجه السرعة نظراً لارتفاع السد يوماً بعد آخر مما يعوق تنفيذ أى حلول جادة لهذه المشكلة الحيوية للبلاد. وأهم المواقف الجادة المطلوبة من المفاوض المصرى هو التأكد من السلامة الإنشائية للسد الرئيسى (الخرسانى) وكذلك السد الركامى المساعد (Saddle Dam). إن تقرير اللجنة الثلاثية الدولية الصادر فى 31 مايو 2013، والمعتمد من قبل مصر والسودان وإثيوبيا ينص على «أن التصميم الإنشائى للسد الخرسانى لا يتناسب مع طبيعة الأرض الصخرية لموقع السد، وأنه معرض للانزلاق والانهيار»، وأضاف التقرير «أن الجانب الإثيوبى لم يوفر للجنة أى تصميمات إنشائية للسد الركامى المساعد». وتم التأكيد على مخاطر انهيار السد الركامى فى الندوة العلمية الدولية التى نظمتها جامعة «إم آى تى» الأمريكية فى نوفمبر 2014 بالولايات المتحدةالأمريكية، حيث نبهت إلى المخاطر الإنشائية التى قد يتعرض لها السد الركامى. وفى رسالة دكتوراه من كلية الهندسة بجامعة القاهرة عام 2015 لصاحبها الدكتور أحمد سليمان، وجد أن انهيار سد النهضة الخرسانى أو السد الركامى سيؤدى إلى انهيار سدى الروصيرص وسنار على النيل الأزرق فى السودان وغرق مدينة الخرطوم بموجة فيضان عاتية يصل ارتفاعها أعلى من عشرة أمتار، ثم تنطلق الموجة الفيضانية إلى شمال السودان لتحطم سد مروى وقد تتسبب فى انهيار السد العالى وخزان أسوان، مما يسبب فقدان أرواح ملايين من المواطنين وخسائر مادية تفوق الخيال. من الضرورى أن يطالب المفاوض المصرى بنسخة من التصميمات الإنشائية لكل من السدين للتأكد من سلامتهما من خلال تكليف مكتب استشارى دولى لمراجعة التصميمات والتأكد من سلامتهما الإنشائية حفاظاً على أرواح مواطنينا وممتلكاتهم بل والبنية الأساسية للبلاد. إن رفض إثيوبيا لهذا الطلب المصرى سوف يعتبر مخالفاً للقوانين والأعراف الدولية، وحتى لحقوق الإنسان التى يتشدق بها الغرب ليل نهار. وأخيراً ومع التطور الحقيقى للعلاقات المصرية الإثيوبية وما تم من بناء الثقة بينهما، فإنه يجب مطالبة الجانب الإثيوبى بتزويد مصر بالجدول الزمنى لإنشاءات السدين الرئيسى والمساعد، حتى تتهيأ مصر لتوابع السد وأضراره من خلال ترتيب البيت الداخلى واتخاذ الإجراءات الواقية. هذه بعض النصائح لوقفات جادة للمفاوض المصرى تعبيراً عن احتياجات ومخاوف شعبه، وقد يتساءل البعض هنا ماذا لو لم تستجب إثيوبيا لهذه المطالب، أو أن يقول قائل (كالعادة) إن مصر سبق أن طالبت بذلك ولم تستجب إثيوبيا، فما العمل إذاً؟ وكما قلت سابقاً إن مصر تملك العديد من الأوراق، وللحديث تكملة إذا كان فى العمر بقية. * وزير الموارد المائية والرى الأسبق