مع اقتراب جولة جديدة من المفاوضات بين أطراف النزاع فى سوريا، تحت رعاية أممية فى جنيف، التى من المقرر أن تستأنف فى 11 أبريل المقبل، تتغير الخرائط بإيقاع سريع على الأرض لصالح الجيش السورى الذى يتمدّد بثبات، وأصبح يسيطر سيطرة كاملة على تدمر كمنطقة حاكمة ، وبذلك تكون مساحة الأراضى التى أضافها النظام لمناطق نفوذه قد زادت بنسبة 15% من مساحة سوريا، بينما عزّزت وحدات حماية الشعب الكردية تقدّمها فى اتجاه قواعد «داعش» فى ريف دير الزور الشمالى وعند الحدود العراقية فى محاولة لقطع خطوط إمداده بعد النجاح فى الاستيلاء على بلدة الشدادى الاستراتيجية، وبها أكبر موارد نفط «داعش» وتتغير الخرائط أيضاً فى المجال السياسى الدولى، حيث صرّحت «فيدريكا موجرينى»، على خلفية عملية «داعش» الأخيرة فى بروكسل خلال مؤتمر صحفى مع «دى ميستورا» إن التهديدات التى تواجه أوروبا ومناطق أخرى من العالم سببها وجود تنظيم داعش الإرهابى فى سوريا، فى حين أثمر لقاء وزيرى خارجية الولاياتالمتحدة وروسيا عن حسم الجانب الأكبر حول ملف الأزمة، وتعنى هذه المؤشرات أن القوى الكبرى لن تسمح لأى قوة إقليمية بأن تعيق الحل السياسى. «واشنطن»و«موسكو» تتفقان على أهمية الحل السياسى.. واستعادة الجيش السورى ل«تدمر» وتراجع المعارضة المسلحة عزز موقف «نظام الأسد» بمفاوضات «جنيف» المقبلة تحولات الموقف الإقليمى والدولى الملاحظ أن الأطراف الراغبة فى إيجاد مخرج للأوضاع المعقّدة فى سوريا تزايدت إن لم تكن قد أصبحت تشكل إجماعاً من القوى الدولية على اختلاف توجهاتها أو مواقفها السابقة واتسمت تحولات الموقف الأمريكى تحديداً برؤية جديدة تميزت بالواقعية والبحث عن مخرج حقيقى فى المسألة السورية دون أن تعير اهتماماً بموقف فرقاء من داخل وخارج سوريا كانت تنحاز إلى مواقفهم من قبل تجاه الأوضاع، كما أن الدول الأوروبية بدأت تدرك أن مخاطر استمرار الصراع تصب فى مجرى أمنها ومصالحها، وبعد أن تجسّدت الإرادة الدولية فى اتجاه الحل السياسى تراجعت أطراف إقليمية عن تشدُّدها، وبدأت قوى كثيرة من الداخل السورى فى تبنى مواقف أكثر اعتدالاً، وقد نتجت هذه التغيرات للأسباب التالية: 1 - شكّل تقارب الموقف الأمريكى - الروسى وقدرة الطرفين على بناء أرضية مشتركة بشأن أهمية الحل السياسى للأزمة وإيجاد مخرج لها قوة دفع فرضت إعادة الحسابات لأطراف الصراع الأخرى المنخرطة سياسياً وعسكرياً بشكل مباشر فى النزاع بعد أن بدا واضحاً توافر إرادة حقيقية لمحور واشنطن - موسكو. 2 - حسمت الدول الأوروبية موقفها بشأن الأزمة السورية بضرورة الحل السياسى الذى يؤسس لدولة علمانية بعد أن تحولت سوريا إلى مركز تدريب للإرهابيين الإسلاميين الذين يتمدّدون إلى داخل أوروبا وازدادت كثافة الهجرة بدرجة غير مسبوقة، مما تسبّب فى مشكلات جمة للدول، وبين هذه الدول بعضها البعض فى تحمّل أنصبة من المهاجرين، إضافة إلى تسلل الإرهابيين من تنظيمات الإسلام السياسى المسلح بينهم، وما نشأ من مشكلات اجتماعية ناتجة من الهجرة الضخمة ذات الثقافة المغايرة وتلاقى توجه الغرب والشرق بأهمية إيجاد الحلول الواجبة لهذا الملف المعقد. 3 - بدأت دول الإقليم غير المتورطة فى نزاعات الأزمة السورية بتأكيد أهمية الحل السياسى، وأصبحت أكثر عزماً مع مستجدات القوى الكبرى فى تأييد الشرعية الدولية لإدارة الملف دون حرج من حلفاء وشركاء إقليميين. 4 - الدول المتورطة من إقليم الشرق الأوسط سياسياً وعسكرياً، التى استغلت الحرب الأهلية فى إدارة حروب بالوكالة لفرض أجندات لا تصب فى صالح الشعب السورى، وأدت أدوارها إلى تفاقم الصراع، اضطرت هذه الدول تحت ضغط الواقع الدولى الجديد إلى الرضوخ والتراجع عن تشدُّدها وشروطها المعوقة والقبول بالإرادة السياسية الدولية رغم التلويح ببعض التصريحات الدعائية من حين إلى آخر حفظاً لماء الوجه، لأن الدول المتورطة فى ملف الأزمة تدرك تماماً الثمن الفادح الذى سوف تتكبّده إن هى سبحت ضد التيار. عقبات فى طريق التفاوض أخيراً، بدأت بالفعل الترتيبات العملية فى اتجاه تعزيز الدور التفاوضى بين أطراف النزاع من القوى السورية المختلفة برعاية دولية، مع الأخذ فى الاعتبار أن المفاوضات سوف تدور بين النظام وقوى المعارضة، وهى مفاوضات سوف تكون بالغة الصعوبة والتعقيد، وسوف تواجهها عقبات كأداء للأسباب الآتية: 1 - إن قوى المعارضة ليست كتلة واحدة، وتوجد بينها تباينات فكرية وعقائدية عميقة تجعل الكثير من فصائلها تقف فى ما بينها على أطراف تناقضات جذرية ما بين تبنى توجهات السعى لإقامة دولة دينية تنفى الآخر غير المسلم والمسلم الرافض للدولة الدينية، وفى الضد تسعى القوى المدنية إلى إقامة دولة علمانية تقف على مسافة واحدة بين جميع أطياف المكون السياسى والاجتماعى، دون تمييز. 2 - سوف تسعى بعض قوى المعارضة إلى محاولة عرقلة التفاوض وإثارة المشكلات والعقبات، تنفيذاً لإرادة دول من داخل الإقليم تعمل من خلف ستار تحاول فرض أجندة تُحقق بها بعض مصالحها التى يمكن أن يُبدّدها الحل السياسى واتفاق الأطراف المتفاوضة. 3 - تحمل أطراف كثيرة مرارات قديمة ومزمنة من قبل أن يبدأ الصراع المسلح تحتاج إلى جهد ووعى لتجاوز هذه الحالة وفتح صفحة جديدة. 4 - فى الحروب الأهلية عندما تتعدّد أطراف الصراع تتربّص الفصائل والمجموعات ببعضها، لأن لغة السلاح تبقى حاضرة بعنفها على طاولة التفاوض، حتى بعد أن يصمت دوى السلاح ويحتاج بناء الثقة بين هؤلاء الفرقاء إلى جهد ومرونة هائلين لصنع لغة تواصل جديدة. 5 - تتصف التركيبة الديموجرافية للدولة السورية بأنها ذات طابع فسيفسائى تتعدّد فيه الديانات المذاهب والأعراق، ويعقد هذا الوضع مسالك التفاوض، ويولّد تفاصيل كثيرة منهكة تحتاج إلى وقت طويل وصبر. 6 - نجاح النظام السورى فى تعزيز موقفه عسكرياً على الأرض وبقوة بعد أن كان مهدداً بالانهيار سوف يجعل الحكومة فى موقف تفاوضى أفضل من قوى المعارضة المنقسمة، وهذا الوضع سيؤدى إلى صعوبة تقديم تنازلات بين الطرفين، وإن كان سيُعزز موقف النظام تصميم القوى الدولية على علمانية الدولة الموحّدة. 7 - الهدف الأساسى للمفاوضات، اعتباراً من الجولة المقبلة فى أبريل المقبل سوف يتمثل فى إعداد دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية، وبالنسبة للدستور الجديد فإنه سوف يشهد صراعاً تفاوضياً، لأن الدساتير تستغرق فى الدول المستقرة مجهوداً ضخماً، وسوف تصطدم الانتخابات النيابية بمشكلات شديدة الصعوبة ما لم تتم سيطرة كاملة الأعمال العسكرية. 8 - سوف يرتبط نجاح المفاوضات المقبلة بعاملين على قدر كبير من الأهمية هما، أولاً: استمرار الهدنة وعدم خرقها من أى طرف من الأطراف لا سيما أنه ليس من المستبعد أن تلجأ بعض القوى إلى هذا الخيار، لتقوية موقفها التفاوضى أو محاولة إفشال التفاوض، وهو أمر يمكن التغلب عليه بالعقوبات وتوجيه ضربات أممية ساحقة للمخالفين لقواعد الهدنة، ثانياً: إيجاد حلول جادة ومباشرة أثناء فترة التفاوض للجوانب الإنسانية وتقديم المعونات الكافية للمتضررين بالتزامن مع الإعمار للبنية الأساسية، وما هدمته الحرب للمساعدة على خلق بيئة مناسبة للضغط المعنوى على الأطراف للحل، من أجل المضى قدماً نحو التحول الديمقراطى. الاختيار الصعب فى حالة استمرار المفاوضات ونجاحها، فإن النتائج النهائية سوف تصب فى أحد اتجاهين لا ثالث لهما، يتمثل الأول فى إعادة بناء مؤسسات الدولة، فى إطار حكومة مركزية يختارها نواب الشعب، الذين تم انتخابهم برقابة دولية بعد انتهاء المفاوضات، وهو حل لن يكتب له النجاح إلا بتحقيق المواطنة الكاملة، دون أدنى تفرقة مع القدرة على إيجاد حلول جذرية لمشكلات ما بعد الحرب الأهلية المادية والمعنوية المهولة، والاتجاه الثانى هو أن يتم بناء مؤسسات الدولة فى إطار فيدرالية تتيح للأقاليم مساحة متفقاً عليها من حرية إدارة الإقليم بحكومة محلية، على أن تبقى للحكومة المركزية بعض الصلاحيات السيادية، وهو خيار صعب، نظراً لفقدان الثقة السائد الآن، وميراث الكراهية من قبل وبعد الحرب الأهلية، وعدم اختبار هذا النظام السياسى من قبل.