فى مثل اليوم؛ السبت 22 ديسمبر منذ 11 سنة، رحلت عن دنيانا الأديبة الرائدة جاذبية صدقى، التى غمطوا حقّها، ورفضوا تتويج مشوارها الأدبى المخلص ولو بجائزة تشجيعية، بينما كان الكيل يُكال إغداقاً وسرفاً وسَفَهاً بالتكريم لمن لا يستحق، لاقت الجحود والجور فى التقدير، وبلعت، مثل الكثيرين غيرها من كرام مصر، الغصّة بالأمل فى أن يعتدل ميزان النقد يوماً ما حين يخاف، من يجب أن يخاف، غضب الله. كتبت بشغف وسعت بنفس الشغف إلى نشر ما تكتب من دون انتظار لمقابل، وتألقت على صفحات الصحف والمجلات والدوريات، سنوات الخمسينات والستينات حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضى، إلى أن ثقلت خطواتها بما استشعرته من خذلان لرائدة بحجمها قدمت للمكتبة العربية ما يربو عن أربعين كتاباً بين القصة والرواية والتحقيق والبحث، أذكر منها: «بوابة المتولى»، «الموسكى إلى الحسينية والبلدى يوكل»، «مملكة الله»، «آخر الأرض»، «ليلة بيضاء»، «ستُار يا ليل»، «ليالى القمر». صعدت جاذبية صدقى منصة النشر الأدبى فى النصف الثانى من أربعينات القرن الماضى وأخذت مساحتها فى الصفحة الأخيرة من جريدة المصرى تنشر قصصها القصيرة برسوم جذابة، لعلها كانت للفنان حسن هاشم، تشد القارئ إلى قراءة اسمها الجديد فى عالم الأدب، الذى وقف نداً راسخاً إلى جانب كتّاب شباب آخرين مثل سعد مكاوى وعبدالرحمن الشرقاوى وعبدالرحمن الخميسى، الذين تناوبوا نشر باكورة إنتاجهم الأدبى فى موقع الصفحة الأخيرة من جريدة المصرى. ولدت جاذبية صدقى 9 يناير 1920، صغرى أبناء وبنات وزير الأشغال محمود باشا صدقى، وكان قد أنجب قبلها 14 ولداً وبنتاً من زوجة واحدة! تخرجت فى كلية البنات الأمريكية، (أمريكان كوليج)، نالت بعدها شهادة الماجستير فى الآداب، أجادت الإنجليزية والفرنسية وتملّكت ناصية اللغة العربية حتى اكتملت بين يديها جوهرة متألقة بالألوان والإيحاءات تشكّلها بين صريح الضوء وغموض الظلال، تصوغها فى الكتابة كما تتكلّمها بجزالة وفصاحة وإحكام، فبدت كتابتها صوتية نابضة متشابهة مع صوتها تحمل مميزات نبراته ذات البحّة والإيقاع الدرامى، يخفت حتى لا تكاد تسمعه ثم يعلو تدريجياً حتى يصل به حماسها إلى الخطابة العالية، ثم ما تلبث حتى تسحبه إلى الخفوت الكلّى كمن يلملم عاصفة فى منديل. جابت الآفاق طوافة بمعظم بلاد الكرة الأرضية تحاضر عن الأدب العربى والفرعونى بوعى مشهود بثقافة العالم الشرقية والغربية، يزكيها نهرو لعبدالناصر بما كتبته بالإنجليزية عن الهند وأطربه، وتترجمها اليابان، وأسمع بأذنى فى ولايات أمريكا الوسطى من يحدّثنى عن استمتاعه بما سمع منها فى محاضرة أو قرأ من قصصها مُترجماً من العربية. أغمضت جاذبية صدقى عينيها واستسلمت لنوم عميق، إلى جوارها كانت وحيدتها بهية يوسف زكى، خريجة آداب القاهرة قسم اللغة العربية، تتهيأ للاستيقاظ لتعطيها دواء الساعة السابعة صباحاً، نادتها بصوت خفيض: «ماما.. حبيبتى.. موعد الدواء..»، لكن جاذبية صدقى كانت قد أسبلت عينيها وانسحبت بهدوء وسافرت إلى البلاد التى لا يمكن لأحد أن يعود منها إلى أرض الدنيا، وكان ذلك صباح السبت 22 ديسمبر 2001.