لدىَّ تحفظات عدة على نظام حكم جمال عبدالناصر، لكن ذلك لا يمنعنى من الدفاع عنه ضد تلك السخافة التى أطلقها توفيق عكاشة، بإقامة تمثال ل«عبدالناصر» فى تل أبيب، ولست أنطلق فى هذا الدفاع من قناعة بشخص، قدر ما أتحرك بقناعة بوطن وبميراث الوطنية المصرية الذى لعب «عبدالناصر» دوراً مهماً فى تأكيده وتكريسه. «عبدالناصر» ابن الطبقة الفقيرة التى تعلمت وتحركت بوازع وطنى لا تخطئه عين من أجل تغيير الأوضاع فى مصر عام 1952، وعندما جلس على كرسى الرئاسة، كانت عينه على الطبقة التى خرج منها، فانتصر لها، ومنحها من المميزات ما جعلها تشعر بانتماء حقيقى إلى هذا الوطن، منحها مميزات وفرت لها عيشاً كريماً، ولا تزال آثار توجهات الرجل تسعى على قدمين فى حياة الناس حتى الآن، بدءاً من بطاقة التموين، وانتهاء بالتعليم المجانى. قُل ما شئت عن تدهور الخدمات التى قدمها «عبدالناصر» للمصريين، بعد رحيله، لكنها لا تزال تقيم أود الفقراء حتى الآن، وعلى من يسخرون من فكرة المجانية ودورها فى تدهور التعليم أن يحدثونا عن مستوى التعليم الخاص، ومن يثرثرون حول أوضاع المستشفيات الميرى أن يكلمونا عن الأخطاء الطبية التى تقع فى أعتى المستشفيات الاستثمارية. لا يزال «عبدالناصر» يلعب دوراً فى حياة المصريين حتى الآن، لأنه الحاكم الوحيد الذى لم يمنح المصريين وعوداً كلامية، بل منحهم عطاءات ملموسة فى أيديهم. ولو أنك تأملت آخر مشهد انتخابات رئاسية عاشته مصر، ستجد أن «عبدالناصر» كان الاسم الأكثر حضوراً فيه، فناصرية المرشح «حمدين صباحى» مسألة لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل، أما أنصار الرئيس عبدالفتاح السيسى فقد كانوا يرفعون صوره إلى جوار صور الرئيس الراحل، كوسيلة لإقناع المصريين به، من منطلق أنه سيحذو حذو «عبدالناصر». لا مانع عندى أن تقول إن «عبدالناصر» لم يفلح فى بناء تعليم أو إعلام وإنه لم يكن ديمقراطياً، ولم يقبل بالرأى الآخر، قُل ما شئت فى هذه الملفات وغيرها، لكن إياك أن تنسى عدة فضائل فى شخص هذا الرجل، من بينها النزاهة والبعد عن الفساد، والانحياز للفقراء، وأخطر فضائله على الإطلاق هو «الوطنية»، فقد كان «عبدالناصر» وطنياً من طراز رفيع، لم يفرط فى سيناء، ربما لم يحسن إدارة المعركة، لكنه كان حريصاً على كل ذرة من تراب هذا الوطن، ومنذ الساعات الأولى لهزيمة 1967 أخذ يعد العدة لمعركة التحرير، يكفى أن تستذكر أن هذه الهزيمة قتلت «عبدالناصر»، الذى لم يحتمل إحساسه الوطنى أن يكون سبباً فى ضياع الأرض. ولو أنك راجعت غيره من الرؤساء السابقين ذوى الجلود السميكة فستعرف من يكون «عبدالناصر». كبرت كلمة تخرج منك أيها «العكاشة» أن تسخر من أكثر رئيس عربى حارب إسرائيل، وآمن بمصريته، وتطلب من سفير العدو أن يقيم له تمثالاً فى تل أبيب. رحم الله الأستاذ محمد حسنين هيكل صاحب كتاب «لمصر لا لعبدالناصر» الذى كان يستوعب أن الخلاف مع أسلوب «عبدالناصر» فى الحكم يجب ألا يمتد إلى التشكيك فى وطنيته العميقة.. هذا الكلام من أجل مصر وليس من أجل «عبدالناصر»!.