أخيراً بدأت انتخابات الرئاسة بعد أن أصبح لدينا اثنان من المرشحين. لا أظن أن آخرين سينضمون للسباق الرئاسى فى الأيام القليلة المقبلة، أو على الأقل فإنه لا يبدو أن أياً من المرشحين الجادين المحتملين لديه الرغبة أو الاستعداد لخوض هذه المنافسة. سيظل السباق الرئاسى محصوراً بين عبدالفتاح السيسى وحمدين «صباحى» وكلاهما له ملامح ناصرية. الخلفية العسكرية والانتماء لمؤسسات الدولة المصرية هى من أهم مؤهلات عبدالفتاح السيسى، وهذا إرث ناصرى بامتياز. قبل جمال عبدالناصر لم يكن للجيش المصرى دور مهم فى السياسة المصرية، ولم يكن أحد ليفكر فى أن قيادة البلاد يجب أن تؤول للجيش بعد أن أخفقت النخب المدنية. قبل «ناصر» لم يكن جهاز الدولة المصرية يحكم، وإنما كان الحكم لطبقتى كبار ملاك الأراضى وأفندية الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، تتبادل أحزابهم الجلوس على مقاعد الحكم حسب نتيجة الانتخابات أو حسب رغبات الملك وضغوط سلطة الاحتلال. لم يتمرد جهاز الدولة على حكامه أو يعصى أوامرهم، إنما انصاع لقيادتهم، ونفذ السياسات التى أملوها عليه. بيروقراطية ما قبل ناصر هى بيروقراطية مطيعة، أما بيروقراطية ما بعد ناصر فهى بيروقراطية حاكمة. عزز «عبدالناصر» قدرات الجيش، وأسس أول جهاز وطنى للمخابرات، وأعاد تشكيل البيروقراطية المصرية بتوسيع نطاقها وزيادة مواردها ومد نطاق سلطانها على قطاعات جديدة من حياة المصريين السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. حوّل «ناصر» جهاز الدولة من كيان صغير محدود الصلاحيات والقدرات إلى كيان هائل له أذرع عديدة وطويلة تصل إلى كل ركن من أركان الوطن، وفى القلب من جهاز الدولة كان الجيش. إنه التأسيس الثانى للدولة المصرية بعد التأسيس الأول الذى قاده محمد على باشا قبل مائتى عام. غادرنا عبدالناصر وهجرنا سياساته، لكن جهاز الدولة الذى بناه ما زال حاضراً. توسع جهاز الدولة بعد ناصر حتى زاد العاملون فيه على ربع مجموع القوى العاملة فى مصر. خلفاء عبدالناصر من السادات حتى مبارك انقلبوا على كثير من سياساته، لكنهم حافظوا على مركزية الدولة وجهازها فى نظمهم السياسية. ضعفت بيروقراطية الدولة التى بناها عبدالناصر وترهلت، لكن الجيش ظل يمثل القلب المنضبط والفاعل والأكثر كفاءة للدولة المصرية. ضاق الأمر بالمصريين بعد أن تغلب الإخوان واتضح أن النخب السياسية المعارضة محدودة الحول والقوة، فتطلع الناس للجيش يبحثون عن السند والنجدة. لم يتأخر الجيش عن الاستجابة لمطلب الناس فأصبح قائده بطلاً ومرشحاً لرئاسة الجمهورية. عبدالفتاح السيسى القادم من قلب جهاز الدولة المصرية الذى أسسه عبدالناصر هو ابن جهاز الدولة، يحمل ميراثه ويتمتع بدعمه. جمال عبدالناصر لم يكن مشروعاً لبناء الدولة فقط، بل كان توجهاً اقتصادياً واجتماعياً يعلى شأن البسطاء، ويراعى حقوقهم. عبدالناصر هو صاحب الأيديولوجية الاشتراكية التى وعدت الفقراء بجنة الله على الأرض. منح عبدالناصر المصريين تعليماً وعلاجاً مجانياً ووظيفة مضمونة فى نهاية سنوات التعليم، وأماناً وظيفياً مطلقاً غير مرتبط إلا قليلاً بالأداء والالتزام، وضماناً اجتماعياً، ومسكناً رخيصاً، وطعاماً ووقوداً مدعومين. منح ناصر المصريين كل هذا فأحبوه، فظل الرمز السياسى الباقى رغم مرور العقود الطويلة على رحيله. الأهم من رمزية ناصر الباقية هو مواصلة تعلق قطاع كبير جداً من المصريين بسياساته فاعتبروها السياسات الوحيدة الصحيحة التى على الحاكم الالتزام بها، إن كان له أن يحظى بتأييدهم. منح عبدالناصر الناس الكثير من الخدمات والأمان الاجتماعى ولم يطلب منهم أن يسألوا عن التكلفة. التكلفة العالية لمكاسب ناصر الاشتراكية لم تتح لخلفائه مواصلة الالتزام بها. حددت سياسات عبدالناصر معياراً عالياً جداً للشعبية والإنجاز والالتزام بمصالح الناس لم يستطع أحد من خلفائه الوصول إليه، فعانت نظم الحكم من بعده من ضعف الشعبية ومحدودية التأييد. لدينا جهاز دولة ناصرى التأسيس والحجم والدور، ولدينا شارع تلهمه السياسات الناصرية، ولهذا فإننا دولة ناصرية بامتياز رغم غياب عبدالناصر، ورغم تقلب الحكام وتغير السياسات. المرشحان المتنافسان على رئاسة مصر فى الانتخابات المقبلة يعكسان هذه الحقيقة بدقة شديدة، فبينما يأتى عبدالفتاح السيسى من قلب الجيش وجهاز الدولة، يرفع حمدين «صباحى» راية سياسات ناصر الاشتراكية. تحدى الإخوان المجتمع كله، فتصدى لهم الجميع، لكن العناصر الناصرية فى الدولة والمجتمع كانت الأبرز فى المواجهة. صور عبدالناصر المنفردة، أو صورته إلى جانب صورة عبدالفتاح السيسى، كانت من أكثر الرموز حضوراً فى الاحتشادات الشعبية التى عارضت الإخوان. من رحم هذه الحشود خرج المرشحان المتنافسان، ومنها أيضاً سيخرج نظامنا السياسى الجديد. أنصار السيسى يؤيدونه إنقاذاً للدولة من التفكك ومن أجل استعادتها من أيدى الإخوان بعد أن حاولوا -وما زالوا يحاولون- اختطافها. أنصار حمدين «صباحى» يؤيدونه من أجل الإبقاء على التزامات الدولة تجاههم. أغلبية المصريين ما زالوا لا يرون لهم مستقبلاً خارج نطاق المشروع الناصرى، وإن اختلفوا حول الجوهرى فى هذا المشروع، هل هو دولة الرعاية كلية القدرة والعطاء، أم أنه سياسات الاشتراكية والتوزيع العادل للثروة؟ إنها المنافسة بين دولة ناصر وسياساته. إعادة إنتاج الحقبة الناصرية رغم أن ميراثها ما زال يعيش معنا هو من ضروب المستحيل. التوفيق بين ميراث ناصرى وحاضر تجاوز الناصرية بأميال هو التحدى الذى يواجه السيسى و«صباحى» ومعهما مصر كلها. الرموز الناصرية ستوظف بكثافة فى سباق الرئاسة المقبلة، والمهم هو ما إذا كانت هذه الرموز ستحمل بمعان جديدة أم أننا سنبقى فى الإطار الناصرى برموزه ومعانيه؟