يبدو أن التاريخ لن يتوقف أبدًا عن إبهارنا بمفارقاته التي يضعها في مسارات الأمم لتظل في ذاكرتها درسًا خالدًا. اليوم، 25 ديسمبر، ذكرى ميلاد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الرجل الذي فتح الباب أمام جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية المتطرفة للعمل بكامل حريتها على أرض الواقع بعد أن ظلوا حبساء الرفض الشعبي والحكومي لسنوات وسنوات .. واليوم أيضًا أعلن «مجلس الوزراء» رسميًا الإخوان المسلمين جماعة إرهابية لتعود كما كانت .. «محظورة». ولد السادات بقرية ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية في 25 ديسمبر سنة 1918 ،وتلقى تعليمه في كتّاب القرية على يد الشيخ عبدالحميد عيسى ثم انتقل إلى مدرسة الأقباط الابتدائية بطوخ دلكا وحصل منها على الشهادة الابتدائية وفي عام 1935 التحق بالمدرسة الحربية لاستكمال دراساته العليا وتخرج من الكلية الحربية عام 1938 ضابطا برتبة ملازم ثان وتم تعيينه في مدينة منقباد جنوب مصر، ثم تولى الرئاسة في عام 1970 ليفتح أبوابًا كثيرة للمخاطر بتعاونه مع الإخوان المسلمين الذين تعاني مصر من تبعات وجودهم على الساحة السياسية حتى يومنا هذا . «وقفت السيارة الرئاسية عند مفترق طرق .. فسأل السائق الرئيس السادات إلى أين اتجه؟ .. رد عليه السادات: إلى أين كان يتجه عبد الناصر؟ .. فأجاب السائق : يسارًا ... فرد السادات: إذن أعطِ إشارة بالاتجاه إلى اليسار ثم اتجه إلى اليمين» ... إنها إحدى النكات الذكية التي أطلقها الشعب المصري ملخصًا سياسات الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي حاول خلع عباءة عبد الناصر بأي شكل حتى لو كان ذلك ضد المصلحة العامة . مع بدايات حكم الرئيس السادات بدا جليًا أنه يحاول التخلص من كل ما إرث عبد الناصر، ولما تمكن من التخلص من الناصريين واليساريين الذين حاولوا تحجيم دوره أو إبعاده في مايو سنة 1971، كان يدرك وجود قطاع مؤيد لهم، فرأى ضرورة السعي لتكوين جبهة مضادة تناصره وتحافظ على الموازنة السياسية أمام اليسار والناصريين داخليًا، وتؤيد اتجاهه إلى الغرب، وبخاصة أنه لم تكن له هوية سياسية قبل توليه الحكم أو شعبية تناصره . وأحس – من خلال ثورة التصحيح في مايو سنة 1971 – حاجته إلى حلفاء، وأدرك أن استغلال الذكريات المريرة عند جماعة الإخوان المسلمين وأتباع التيار الإسلامي ضد عبد الناصر وأعوانه سيجعل منهم ركيزة هامة له في بحثه عن مؤسسات في الأوساط الاجتماعية والجامعات وغيرها . بادر السادات على الفور بالإفراج عن المسجونين السياسيين من جماعة الإخوان المسلمين، وسمح لهم بالتدريج بمزاولة نشاطهم، وبدأ يتخذ سياسة التقرب من هذا التيار «طالما أنه لا يهدد سلطته أو يتحدى سياسته» فأطلق على نفسه اسم الرئيس المؤمن ومزج خطبه بكثير من آيات القرآن، وأعلن عزمه إنشاء دولة العلم والإيمان. في الجامعات عمد السادات إلى احتواء الطلبة الذين أبدوا تذمرًا من سياساته فعقد معهم اللقاءات والندوات والمؤتمرات محاولاً إقناعهم بأنه «خليفة عبد الناصر»، ولما لم ينجح أطلق يد جماعة الإخوان المسلمين لتكون معادلاً سياسيًا للحد من انتشار «الأولاد اللي لابسين قميص الاشتراكية وعبد الناصر» كما وصفهم . ربما كان التحالف مع الإخوان المسلمين لعبًا بالنار، وهو ما أدركه السادات .. لكن بعد فوات الأوان . في آخر خطاب له في الخامس من سبتمبر عام 1981 - قبل أن تغتاله الجماعات المتطرفة التي اخترقت صفوف الجيش المصري - وقف السادات في مجلس الشعب قائلاً «كل الكلام دا أعلن واتكتب .. اتصلنا بالإخوان قبل ثورة 23 يوليو عبد الناصر شخصيًا وطلب منهم الاشتراك في الثورة جبنوا وخافوا .. ثورة شعب طلع من جديد وأبنائه اللي كانوا مش بيتعلموا اتعلموا وعادت الحقوق لأصحابها .. كامب ديفيد لم تخرج مصر من ساحة الجهاد دا أسيادهم اللي بيمولوهم هم اللي بيقولولهم هذا الكلام ولازم يدفعوا تمنه ... أنا طلعت غلطان؛ كان لازم خليتهم في مكانهم». وعلى ذكر «كامب ديفيد» التي تحدث السادات في خطابه، يرى كثير من المحللين أنها و«اتفاقية السلام» أخرجتا مصر بالفعل من الصف العربي بعد توقيع هذه الاتفاقية التي ما تزال بعض بنودها سرية حتى الآن، بعكس ما كان يؤكد السادات دومًا في خطاباته. بدأ السادات بعد توليه الرئاسة الإعداد للحرب على الكيان الصهيوني من أجل استرداد تراب الوطن من خلال الاتفاق مع الاتحاد السوفيتي بتزويد مصر بالأسلحة، ثم أقدم على اتخاذ قراره المصيري بعبور القناة فحطم الجيش المصري خط بارليف وأعاد الأرض، إلا أنه في عام 1977 اتخذ قراره الذي تسبب في ضجة عالمية بزيارة القدس لدفع عجلة السلام بين مصر وإسرائيل وهو ما انتهى بتوقيع معاهدة السلام المصرية الاسرائلية عام 1979 والتي عملت إسرائيل على إثرها على إرجاع الأراضي المصرية المحتلة إلى مصر .. وحصل بعدها على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيجن . توترت علاقات مصر مع جميع الدول العربية بإستثناء سلطنه عمان والسودان والمغرب بعد زيارته لإسرائيل وعملت الدول العربية علي مقاطعة مصر وتعليق عضويتها في الجامعة العربية وتقرر بعدها نقل المقر الدائم للجامعة العربية من القاهرة إلى تونس العاصمة. شهدت أيام السادات الأخيرة حملة اعتقالات واسعة شملت المنظمات الإسلامية ومسئولي الكنيسة القبطية والكتاب والصحفيين ومفكرين يساريين وليبراليين ووصل عدد المعتقلين في السجون المصرية إلى 1536 معتقلا وذلك إثر حدوث بوادر فتن واضطربات شعبية رافضة للصلح مع إسرائيل، وربما لم تكن سياسات السادات تجاه إسرائيل هي وحدها محل انتقاد، لكن ابتعاده عن الاشتراكية ورغبته في اتباع المنهج الرأسمالي وإهمال العمق الإفريقي وبدايات حل القطاع العام وإعادة مصر إلى مصاف الدول الزراعية بعد أن كانت قد اتخذت خطواتها نحو المجتمعات الصناعية، كل ذلك كان محل انتقاد شديد ليس من الساسة والاقتصاديين والمثقفين وحدهم بل من البسطاء الذين رأوا أن الرئيس الراحل ابتعد كثيرًا عن الاهتمام «الحقيقي» بالمواطن