يتوجه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند غدا "الأربعاء" إلى الجزائر في زيارة تستغرق يومين، هي الأولى من نوعها منذ وصوله إلى سدة الحكم في فرنسا في مايو من العام الجاري. وتجتذب هذه الزيارة اهتمام دولي وإقليمي واسع بسبب خصوصية العلاقات بين البلدين إضافة إلى أنها تأتي في ظل ظروف إقليمية متوترة واختلاف في مواقف ورؤى البلدين حول العديد من القضايا. ورأى كثير من المراقبين أن الرئيس الفرنسي يسعى من خلال تلك الزيارة إلى إعادة الدفء للعلاقات الفرنسية الجزائرية عبر إعطاء مؤشرات إيجابية مع الإدلاء بتصريحات متفائلة حول مستقبل العلاقات، وذلك بعد فترة طويلة من التوتر وصل إلى حد القطيعة غير المعلنة في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. ومن المتوقع أن تشهد تلك الزيارة التوقيع على عدد من اتفاقات التعاون الثنائي بين البلدين في مجالات مختلفة كالنقل والسياحة والصناعة والسكن والصحة، والتي عكفت على تحضير بنودها منذ أسابيع لجنة جزائرية بمشاركة عدد من الخبراء الفرنسيين، وهو ما قد يساهم في إنعاش التعاون الاقتصادي بين البلدين. وينتظر أن يتناول الرئيس الفرنسي مع نظيره الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، عدد من القضايا الهامة يقع على رأسها أزمة مالي والتي تشكل قضية خلافية بين الجانبين. ففي الوقت الذي تسعى فيه فرنسا بمشاركة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، للحصول على تفويض أممي لنشر قوة عسكرية في المنطقة الشمالية للبلاد، تتمسك الجزائر بموقفها الرافض لأي تدخل أجنبي في المنطقة، مؤكدة إصرارها على تأييد الحل السلمي القائم على التفاوض بين مختلف أطراف النزاع. ولا يتوقع أن تفضي تلك المشاورات إلى حل نهائي للجدل الدولي القائم حول دعم التدخل العسكري على الأراضي المالية، لا سيما وأن فرنسا متمسكة بموقفها الذي تسعى من خلاله إلى حماية مصالحها المتواجدة في منطقة الساحل التي تربطها بها علاقات تاريخية قديمة باعتبارها مستعمرات سابقة.. من ناحية أخرى، تسعى الجزائر للحفاظ على مبدئها الرافض لأي تدخل في الشئون الداخلية لأي دولة. وينتظر أن يحتل ملف المهاجرين الجزائريين في فرنسا مكانة هامة في مناقشات الرئيسين الفرنسي والجزائري خاصة وأن فرنسا قد أعلنت مؤخرا، وبعد سنتين من المفاوضات غير المثمرة، أنها لن تعدل الاتفاق الثنائي المبرم عام 1968 والذي ينظم دخول وإقامة الجزائريين، أكبر جالية أجنبية في فرنسا. ومن المعروف أن اتفاق 1968 يعطي الحق للجزائريين الحاصلين على تأشيرة إقامة محدودة المدة من الحصول على إقامة، ويعد الجزائريون هم الوحيدون الذين يتمتعون بهذا الامتياز. وكانت فرنسا تسعى منذ سنوات إلى إعادة التفاوض حول تلك الاتفاقية للتقليل من تلك الامتيازات أو تحديدها وذلك في إطار سياستها الجديدة في التحكم في الهجرة، غير أن الجزائر ظلت متمسكة برفضها التخلي عن تلك الامتيازات مؤكدة أن اتفاق عام 1968 يبرز خصوصية العلاقات التاريخية بين فرنساوالجزائر. ومن بين الموضوعات التي يتوقع التطرق إليها أيضا خلال تلك الزيارة، والتي يتكرر طرحها تقريبا مع زيارة كل رئيس فرنسي للجزائر، قضية الذاكرة التاريخية واعتراف فرنسا بجرائمها ضد الشعب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية والاعتذار عنها. ويأتي ذلك في ظل تزايد المطالبات بالاعتراف الرسمي للدولة الفرنسية بجرائمها ضد الشعب الجزائري حيث استبق زعماء 14 حزب من أحزاب المعارضة زيارة هولاند وقاموا بالتوقيع على بيان يطالبون فيه الرئيس الفرنسي بالاعتراف بالجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي ضد الشعب الجزائري خلال حقبة الاحتلال التي دامت 132 سنة، مؤكدين أن أي مسعى لتطوير العلاقات بين الجزائروفرنسا إلى مستوى الصداقة يجب حتما أن يمر عبر بوابة الاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائم فرنسا ضد الإنسانية في الجزائر، وأن كل علاقة أو اتفاقية توقع في هذا الإطار مع الطرف الجزائري تعتبر في حكم الملغاة. ويرى المراقبون أن مسألة الاعتراف الشامل من جانب الدولة الفرنسية بجرائم الاستعمار ليست في متناول الرئيس هولاند في الوقت الحالي، الذي لا يمكن أن يقلب الموقف الرسمي الفرنسي رأسا على عقب، على اعتبار أن هذه المسألة تحكمها اعتبارات أخرى تتعلق بالموقف المتشدد لليمين الفرنسي بخصوص هذه المسألة، وكذا مصالح الحزب الاشتراكي الفرنسي، الذي ينتمي إليه الرئيس هولاند، داخل الساحة السياسية الفرنسية. وما يدعم الرأي السابق هو أن تصريحات الرئيس هولاند لم تحمل أي نية في التطرق إلى الماضي الاستعماري للدولة الفرنسية في الجزائر، بل على العكس تماما أشارت أغلب تصريحاته إلى ضرورة تجاوز الماضي وبناء علاقات ثنائية بعيدا عن الذاكرة التاريخية، مؤكّدا أن "التاريخ يجب أن يستخدم لبناء المستقبل وليس لمنع هذا البناء، وبالتالي علينا أن ننسج علاقات ندرك أنها ستكون خاصة مع الجزائر بهدف التمكن من تجاوزها وتجاوز كل ما له علاقة بالتاريخ وبتاريخ مؤلم بطريقة تمكننا من التوجه بحزم إلى المستقبل لأنه توجد إمكانات هائلة بين بلدينا من أجل التنمية الاقتصادية والثقافية". ومن ثم توقع المراقبون أن هذه الزيارة لن تفرز جديدا بخصوص ملف الذاكرة، وستكون على غرار سابقاتها التي قام بها كل من شيراك وساركوزي اللذين راوغا وحافظا على لب الموقف الفرنسي الرافض للاعتراف بجرائمه في الجزائر. ومن المنتظر أن تشهد زيارة هولاند تكريما للمناضل الجزائري من أجل الاستقلال موريس ودان وذلك في الساحة التي تحمل اسمه في وسط الجزائر العاصمة. وقد اعتقله الفرنسيون وقاموا بتعذيبه عام 1957 ولم يتم العثور عليه منذ ذلك الحين، وما زالت أرملته تطالب بكشف الحقيقة حول مصيره، وينظر عدد كبير من المراقبين إلى الرئيس هولاند باعتباره أكثر قربا من سابقيه للجزائر ويستشهدون على ذلك بالعديد من الشواهد أولها أن الغالبية الساحقة من الفرنسيين والفرنكو جزائريين المقيمين في الجزائر صوتوا لصالح هولاند خلال الانتخابات الرئاسية بنسبة تصل إلى 87 في المئة، كما قوبل خبر فوز هولاند بكثير من الفرح والارتياح من قبل الجزائريين حتى أولئك غير المعنيين بالتصويت. ويبرر هذا الموقف العديد من الأسباب منها فرحتهم بسقوط الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي كان يتبنى سياسات متشددة تجاه المهاجرين الذين عانوا كثيرا من القوانين والتصريحات العنصرية الصادرة منه، فضلا عن أن الرئيس هولاند كان من أبرز زعماء الحزب الاشتراكي الذين عارضوا صدور قانون 23 فبراير 2005 الممجد للاستعمار والذي تعتبره الجزائر تجريحا لذاكرة الشهداء وتم إلغاءه بعد ذلك. ثاني الشواهد التي تشير إلى قرب الرئيس هولاند من الجزائر هو أنه كثيرا ما يعطي خصوصية لتلك الدولة العربية التي تربط بلاده بها علاقات تاريخية طويلة، فمثلا اختصها لتكون أول دولة عربية يزورها رسميا منذ انتخابه، كما أنها كانت الدولة العربية الأولى التي يزورها وزير خارجيته لوران فابيوس في يوليو الماضي والتي هدفت إلى تعزيز العلاقات بين البلدين والتحضير لزيارة الرئيس الفرنسي المرتقبة. كذلك حرص الرئيس هولاند على تقديم تهنئة خاصة للرئيس الجزائري بالذكرى الخمسين على استقلال البلاد مؤكدا فيها عن رغبته في تعزيز الصداقة بين البلدين، وعلى أن التاريخ الطويل والمشترك الذي يجمعهما قد أوجد بين الجزائروفرنسا روابط مكثفة ستساعد في المضي معا من أجل بناء الشراكة وتطوير مشروعات طموحة تعود بالفائدة على شعبي البلدين. أما ثالث تلك الشواهد فهو قرار الدولة الفرنسية في أكتوبر الماضي الاعتراف بمسؤوليتها عن" القمع الدموي "الذي استهدف متظاهرين جزائريين في 17 أكتوبر 1961 في باريس وضواحيها حيث أعلن الرئيس هولاند أن "الجمهورية تقر برؤية واضحة بهذه الوقائع بعد 51 عاما على هذه المأساة، موجها تحية إلى روح الضحايا". وقد قوبلت هذه الخطوة بترحيب من الجانب الجزائري الذي أوضح أن الاعتراف بهذه الأحداث لن يقلل من قيمة الدولة الفرنسية، بل يشكل بداية حسنة لتطوير العلاقات بين الجزائروفرنسا. وفي السياق ذاته أقر البرلمان الفرنسي نهائيا الشهر الماضي اقتراح قانون اشتراكي يجعل يوم 19 مارس، تاريخ وقف إطلاق النار عام 1962، يوما وطنيا لإحياء ذكرى "ضحايا حرب الجزائر"، في لفتة دبلوماسية للجزائر. وتم إقرار اقتراح القانون في مجلس الشيوخ بأكثرية 181 صوتا ضد 155 وأعلن اليسار تأييده للقانون، فيما عارضه اليمين إثر نقاشات محتدمة. واعتبر كثيرون أن هذا القرار مؤشرا إيجابيا على إمكانية تحسن العلاقات في عهد الرئيس هولاند وتهدئة أجواء التوتر السائدة منذ سنوات بين البلدين.