ومنذ شهور فائته، وأهل الحارة وأولهم أم السعد يفدون على داره فُرادى، واجب المباركة حتمى، منذ صارت بقرته صارفاً أولاً، تطلب الفحل، ثم (عُشرا) بعد أن وطئها فحل الحاج درغام، وجاءت كلمات جساس البهائم بالبشارة، ولمَ لا؟
والروح بعد شهور ستصبح روحين؛ روح الأم، وروح لعجل البقر الوليد، الذى قد يأتى ذكراً، يصلح للتسمين والبيع، أو يصبح كفحل الحاج درغام نفسه، يطأ إناث البقر من أجل زيادة النسل، وإدخال البهجة على قلوب المساكين، مقابل مقطف قمح، أو جوال من أقماع الأذرة، وربما جاء العجل الوليد أنثى، تكبر مع العلف، لتصبح جاهزة للوطء والإنجاب، يزداد الحيز ويتسع الرزق، ناهيك عن لبن البهيمة الأم، الصالح لفعل كل شىء، من شأنه ستر عورة الدار، من العوز والحاجة ولو لحين..
لا يدرى أحد، سر هذا الرقم العجيب (واحد)، ومعانيه المختلفة فى هذه القرية؛ بطة وحيدة لأم السعد، تجمع من ورائها البيض، تأكل قليله وتبيع كثيره، لتقضى بثمنه بعض حاجاتها البسيطة، أو تستبدله من البقال، بقليل من الأرز الأبيض، أو السكر والشاى، وفى أحسن الأحوال، يطأ البطة يومياً ذكر الجيران، فيصبح البيض صالحاً للرقاد، والفقس عن بطات صغيرات.
بطة وحيدة لأم السعد، جارة الجنب للعم عويس، وجحش وحيد لجار جنبه الآخر، وقيراط وحيد من أرض للجار المواجه، وبقرة وحيدة له هو، ظل الأمل كبيراً لشهور، فى كسرها هى ووليدها الذى كان منتظراً لهذا الرقم (واحد)، فتتخطاه إلى الرقم (اثنين). ولكن...
ها هى الأقدام لم تزل تروح على دار العم عويس وتجىء، لكنها هذه المرة ليست فرادى، بل جماعات، غير مقتصرة على أهل القرية فحسب، بل تعدتها إلى أقاربه، القادمين من قرى مجاورة، سيراً على أقدامهم الحافية، حريصين ألا يفوتهم واجب العزاء... نعم العزاء.
وألا تفوتهم أية كلمة مشهورة، من كلمات المواساة، التى قد تبعث الأمل، لدى قريبهم المكلوم، وتشعل بداخله جذوة الصبر والسلوان.
وعلى كل جار، باتت التضحية واجبة، بما لديه من قوت، حتى ولو كان رغيفاً وحيداً، ليرسل به إلى دار العم عويس، لإطعام هؤلاء الأقارب، الذين لا يحملون أية مئونة، إلاَّ إذا وافق مجيئهم فرحاً أو حفلاً، أما فى حالة كهذه، فلابد من انسحاب أيديهم خالية، إلى جوار قاماتهم، فقط تمنح ألسنتهم عطاياها من الكلمات، والكلمات لا تطعم جائعاً، ولا تكسو عريانا، ربما أحبطت حزنا دفينا، أو صنعت هضبة من سلوان، ترطب الروح وتخفف من وطأة الكلالة.
بقرة وحيدة للعم عويس، لم يضن بها يوماً على أحد، تزامل بقرة الجار، فى سحب محراث الأرض، أو فى الدوران حول الساقية، كى تدفع بمائها ليروى عطش الزروع، أو حتى تدوس فى دائرة الطين، بغرض إلانة قوامه، مختلطا بتبن القمح وسبلة البهائم، فيصبح صالحاً لصنع جدران الدور الواطئة، أوحوائط الزرائب، وخزائن داجنة البيت، وبراجات الحمام...
بقرة وحيدة له، وبطة وحيدة لأم السعد، لابد من ذبحها اليوم، وتقديمها مع ما يتاح من رزق، سداً لرمق بعض الأقارب، القادمين من بعيد، ليقدموا واجب العزاء، فى تلك التى هاجمتها حمى البقر، وعاجلها النفوق قبل موعد ولادتها، بيومين اثنين.