برفق شديد يمسك بمقدمة حذاء قديم بهت لونه الأسود ليتأكد أن المادة اللاصقة قد جفت علي الكعب الجديد ، يثبته بالمسامير السوداء الصغيرة ، و يضرب رأس المسمار بمطرقة تعشق سندانه العتيق تماما كعشقها تجعايد ظهر كفه وتفاصيل أخري شاركت السنين رسم ملامحه أولها إبتسامته الهادئة فالأخيرة تمنحك السلام دون أن يرده عليك حروفا وكلمات . إنه " يوسف متولي" وشهرته - أبو أحمد الإسكافي - ، تجاوز عمره ال 70 عام قضي نصفها تقريبا بين رائحة " الكولا " والجلود و إلى يومنا هذا لا يجد نفسه إلا بين مقصه الحديدي وإبرته الطويلة والتي فقدت بعضا من بريقها من كثرة الإستعمال ، تناثرت الأحذية بجواره في إنتظار قدوم أصحابها بعد أن أنتهي من إصلاحها تماما مثلما تناثر همه وتبددت وحدته بين البسطاء ، يجلس كمدربي "اليوجا" و يمتلك زجاجة مياة وقطعتين من الإثاث إحداهما منضدة خشبية صغيرة تناثرت أداوته عليها والأخري مقعد خشبي خاص بزبائنه وساعات الإنتظار . فبين الإضاءة الصفراء فوق رأسه وموقد صغير نحاسي اللون والخامة تسبب كره الشديد للنمطية والرويتن اليومي في لجوئه للشارع بين البسطاء يصلح حذائك ويلمعه بمهارة حرفي قديم مقابل جنيه واحد ، وجنيها أخر مقابل تجديد "الفرش" المهترئ ليعود ثانية وحسب وصفه " الجوز دلوقتي بقي يافت ". الغريب في العم يوسف لم ينحصر فقط في إختياره – كوبري الخشب – بمنطقة " بولاق "كمقر لعمله بعد تقاعده بفضل بلوغه سن المعاش فالرجل لا يصيبه أبدا الإرتباك حين يبدأ في تصليح كم الأحذية المتراكم أمامه مثلما أصابه في هذه اللحظة وهو يبرر عشقه لعمله ويحلف بأن كل أوجاعه تذوب دفعة واحدة في هذا المكان . يتدخل الآن صوت " محمد عبد الوهاب "بمطلع أربعيني قديم - بالليل ياروحي أرتل بالآنين أسمك - أتت به إذاعة الأغاني عبر راديو قديم يضعه العم يوسف بجوار أدواته ويحكي مستمتعا بعد أن رأيته يستخدم ورق الديكور المقوي في عمل نماذج مصغرة لتصاميم مختلفة يسهر ليلا لتصنيعها في منزله ، انه فن " الاوريجامي " عزيزي القارئ ، كلمة يابنية الأصل تعني طي الورق وفن قديم ظهر في العام ال700 ميلاديا ،الاوريجامي الذي قال عنه علماء النفس بأنه بمثابة تمارين العقل يجيده هذا العجوز فوق كوبري خشبي يكبره بعام أو أثنين ، لاشئ أكثر روعة من المصادفة لم يكن يعلم العم يوسف مسبقا بأنه يجيد الإبتكار والتجديد إبداعا يعيش معه بين البسطاء في الشارع حين وهناك في منزله أحيانا ، هكذا تتداخل أوراقة فأري وجه حذاء تارة وأخري يقوس أوارقه لتصنع حذاء كاملا ، بسهولة شديدة وكأن أصابعه والأوراق جمعتهم حالة راقية من التوحد يظل الرجل هكذا بين أدواته ومنضدته من العاشرة صباحا وحتي تخبرة مذيعة الأثير بأن ليل القاهرة قد إنتصف.