صدر عن دار "إيزيس" للفنون والنشر، وبمنحة من "الصندوق العربي للثقافة والتنمية" مجموعة قصصية جديدة بعنوان "دوار البر" للكاتبة رانيا هلال، والتي تشتمل على 15 قصة قصيرة. يقول الناقد د. سيد البحراوي: في مجموعة القصص الأولى "دوار البر" تفاجئنا الكاتبة الشابة رانيا هلال بقدرة فذة على الوعي بفارق ضئيل لا يستطيع الكثيرون التقاطه، بين رؤية رومانسية تسعى لأنسنة الأشياء، ورؤية أخرى قد تكون واقعية أو حتى أعمق من الواقعية تجسد القيمة الاستعمالية لتلك الأشياء. فهي تقول "لكل شجرة رائحتها الخاصة، لكل شجرة ذاكرتها الخاصة". كما هو حال الإنسان المصري والثورة المصرية الآن في طريق الانتقال من حالة ثورية إلى وعي ثوري. يواصل : حين يتأمل الإنسان في النصوص الخمسة عشر هذا التجسيد لحالات المهمشين والمضطهدين في علاقاتهم بأدوات إنتاجهم البسيطة، يكتشف أنها تخرج من إطار النخبة المزيفة من كتابنا الكبار والصغار – تنتمي غلى نمط الحياة في العمق المصري أي لدى الطبقات الشعبية التي عاشت طوال الآلاف من السنوات في ظل القهر والفقر والاستغلال، دون أن تفقد القدرة على ممارسة الحياة، بل وتنميتها بصبر واحتمال يبدوان أبدين، ويجعلان البعض من المحللين الميئسين يروهما خنوعا وذلا كخواص دائمة للشعب المصري. ومن قصص رانيا هلال نقرأ "صندوق يعتلي الهامات الضاحكة" "عين كبيرة تنظر إليه من الأعلى... تمشى معه أينما ذهب... تراقبه كطفلها الساذج الذي تتعثر خطواته من حين لآخر. ربما هذا ما جعله يتلعثم في الحديث كلما حاول الكلام. ينظر في كل الاتجاهات كمن يتمنى لملمة ذبذبات صوته المبعثرة في الهواء وإعادة استخدامها كأول مرة بطلاقة وتلقائية غير عابئ لشيء. كلما حمل صندوقه الخشبي المصطف على حوافه زجاجات الصبغة الملونة بعناية على كتفه الصغيرة، شعر أنها حتما ستقع منه بعد أن يتعثر في حجر صغير أو طفل يجرى بين السيارات. يجلس جانب إحدى المقاهي. يضع صندوقه جانب قدميه ويدق عليه بفرشاته الخشبية ذات الشعر الأسود الكثيف لعل أحد المارة أو الجالسين على المقهى ينتبه لوجوده ويناديه. يراقب بعض الصبية في مثل عمره يلعبون بالكرة في الشارع المقابل، يتابع باهتمام شديد ويشجع بحماس. ينتفض حاملا صندوقه بخفة ويسير اتجاه المنادي، يجلس عند قدميه تحت منضدة الطلبات، وبنشاط ومهارة تتراقص يداه يمينًا ويسارًا حول الحذاء ممسكة بالفرشاة السوداء التي سكب عليها بعضًا من الصبغة بعد أن طوقه بقطعة قماش عدة مرات لينفض الغبار أولا. ها هي العين الكبيرة تطل عليه مرة أخرى. فكّر كثيرًا بها، لكنه أبدا لم يعرف من أين تأتي أو ماذا تريد، يلاحظ أحيانا أنها عين حنون لا تريد سوءًا له. يحاول أن يظهر بمظهر الخبير بمهنته رغم صغر سنه متذكرًا جده حينما كان يحكي له أنه كان يتقن عمله لدرجة جعلت الناس في عصره يضعوه على مصطبة عالية يراه منها الجميع، ومَن يحتاج لتصليح حذائه يأتي ليقف في الطابور إلى أن يأتي دوره فيصلح له حذائه. هكذا كان يعامل أهل مهنته في ذاك الزمن. مشهد الرجل الذي يضع إحدى قدميه على قطعة من الورق صفراء اللون وقد خلع حذائه ليصلحه والده لا يفارق ذاكرته، كان صغيرًا جدًا ليدرك ماذا ينتظر الرجل، لكنه لم ينس نظرات الاحترام والتقدير في عينه عندما سلمه أبوه الحذاء بعد أن أصلحه، فكأنما رد للرجل روحه، فشكره بشدة وأعقب شكره بالتأكيد على إنقاذه من يوم غياب عن العمل بسبب الحذاء. كان لديهم محل يمتلئ عن آخره بكل الأنواع والأشكال والأحجام من الأحذية التي تنتظر دورها في الإصلاح، وكان بالمحل مقعد خشبي طويل يتسع لثلاثة أشخاص معا، وماكينتان لخياطة الأحذية، يعمل والده عليهما لصناعة الأحذية الجلدية بالطلب بعد أن ينتهي من إصلاح ما لديه. لم يكن يحب رائحة تلك الأحذية التي كان يظن أنها تبرز له لسانها كلما نظر إليها، إلا أنه أحب تأمل وجه والده وهو يعمل بهدوء وطمأنينة، حرص على مرافقة والده في المحل فيما بعد العصر حتى يراقب وجه والده عندما يسلم الأحذية لأصاحبها بعد إصلاحها، لم ينس الملامح التي كان يزيل إنهاكها نظرة تقدير واحترام واحدة. يبتسم لذكرى جده ووالده وحكاياتهم التي تزيده حبًا لمهنته، وبقوة بكر احتل صوت يتمها المرتعش نبرة تفاؤل وحب يصر على الإشراق، نظر لأعلى مصوبًا عينيه تجاه عين صاحب الحذاء وبابتسامة تعلن عن قوتها قال "خلاص يا بيه". جدير بالذكر أن رانيا هلال فازت بجائزة "منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون" في قطر، والتي تقدم لها عدد كبير من الكتاب والأدباء بأفكارهم وفاز بها حوالي عشرة أدباء كانت رانيا اصغرهم. وهي في قصة "دوار البر" تتناول "الكومسري". كما قدمت فكرة تفصيلية عن عملها والعلاقة التي تنشأ بين صاحب المهنة والأداة التي يستخدمها في المسابقة ك"بائع الخضروات"، "بائع الذرة"، "الصياد"، "الترزي"؛ وأوضحت أن الأداة هنا تشكل شخصية الصانع، وبالتالي تكون الشخصية منفردة حتى في مصطلحاتهم.