أصدر السيد سوني رجل الأعمال الياباني المعروف لكل مخلوق علي الأرض أصدر كتابا عن الإدارة في أمريكا والإدارة المقصودة ليست الحكومة بل فنون إدارة الأعمال بوجه عام وإدارة المصنع بوجه خاص. وفي حلقة تليفزيونية شاهدته وهو يدين بشدة مناهج الإدارة في أمريكا مقارنا بينها وبين ما يحدث في اليابان أخذ يتساءل في استنكار.. ما معني أن يشتري أحد الناس مصنعا ليقوم بتسييله وفكه إلي أجزاء أو إلي وحدات صغيرة ليبيعه منهيا وجوده ككائن حي غير مبال بما يحدث لعماله؟ ما معني أن يبيع أحد الناس مصنعه لأنه يواجه مشكلة عجز هو عن حلها.. هل سأل العاملين في المصنع عن حل لهذه المشكلة؟ المصنع أسرة وعلي صاحبه أن يفكر بعقلية رب الأسرة. ثم بدأ يتكلم عن خصائص إدارة المصنع الياباني إلي أن جاءت لحظة تأكدت فيها أنه لا يتكلم عن اليابان بل عن دمياط فعندما بدأ الحديث عن دور الأسطي في الورشةأصيب مقدم البرنامج بدهشة شديدة عند سماعه يقول : إن الأسطي ليس مسئولا فقط عن إنتاجية العامل في المصنع بل عن حياته الخاصة أيضا إن وجود شئ ينغص عليه حياته في البيت سوف يؤثر بالتأكيد بالسلب علي إنتاجه لذلك من حقه أن يقول رأيه في الفتاة التي اختارها العامل لتكون زوجة له. في تلك اللحظة تذكرت دور الأسطي في دمياط وعلاقته بالحياة الخاصة للصنايعي الأسطي ليس مسئولا فقط عن السلعة المصنعة في الورشةبل تتعدي مسئوليته هذا الإطار الضيق لتشمل أهم قرار في حياة الصنايعي وهو الزواج. لابد من الحصول علي موافقته علي الأسرة التي سيتقدم إليها وعليه أن يصحبه في زيارته الأولي إلي هناك. عندما تتقدم أنت لإحدي الأسر طالبا يد إبنتها فمن الطبيعي والمؤكد أنك ستصطحب معك والدتك ووالدك وهو ما يمثل الحد الأدني في تمثيل وجوه الأسرة غير أن الصنايعي لا يكتفي بذلك لابد أن يصحبه أيضا الأسطي.. أسطاته في الورشة لأنه إذا كان الأب والأم يمثلان المرجعية الاجتماعية والتماسك الأسري إلا أن الأسطي يمثل مرجعية أهم من ذلك بكثير وهي روح المسئولية إنه الضمانة الوحيدة بأن هذا الزوج المحتمل يتمتع بروح المسئولية والإتقان وهما في واقع الأمر ما يجعلان الإنسان رجلا وجود الأسطي في هذه الزيارة الهامة يعتبر شهادة إيزو أسرية وحياتية. وفي الخناقات بين الصنايعية عندما تتطاير الكلمات الحادة بينهم لابد أن تسمع كلمة أسطي تتردد كثيرا مثل.. أنا أسطاتي فلان.. إنت أسطاتك مين؟ أو.. أنا مش حارد عليك.. ليك أسطي يترد عليه. وعندما تتضح شراسة أحد الأطفال من صبيان إحدي الورش فلابد أن تسمع هذا السؤال الاستنكاري: الواد ده أسطاته مين؟ الأسطي لا يكذب ولا تتحكم فيه أهواؤه ولا يعرف سوي الإتقان في العملويجيد معرفة أقصر الطرق المؤدية لهذا الإتقان ليس لأن هذه الصفات تمثل مثلا وقيما عليا يجب أن يحرص عليها الإنسان بل لأنها تمثل قيما وأدوات عملية لابد من الأخذ بها من أجل التواجد والربح في السوق وفي غياب الصدق والمهارة في الحرفة لن يقترب منه أحد لشراء السلعة التي ينتجها.. الاقتصاد الحر يحتم بين العاملين فيه أعلي درجات الأخلاق هذا هو ما تقوله خبرة السنين أما رجال الأعمال الهواة الذين حققوا نجاحا بفعل الحظ أو المغامرة أو بمصاهرة القطاع العام فمن المؤكد أنهم يخلطون بين قواعد التجارة وقواعد القرصنة. وإذا كان الأسطي يمثل السقف وأعلي درجات المسئولية في الورشة الصغيرة غير أن الورشة الكبيرة في حاجة لما هو أكثر من ذلك هناك منصب آخر.. هو الكوماندا. الكوماندا هو أسطي قديم يتسم بأنه (إدارجي) أي يجيد التنسيق بين كل الأسطوات العاملين في الورشة. في غياب التنسيق بين مجموعات العاملين في الورشة الكبيرة بتخصصاتها المتعددة من الممكن أن يضيع وقت وجهد كل العاملينهناك عشرات الخطوات والمراحل يجب أن تتم بانسيابية وبدون تضارب بينها كما أن هناك أيضا عشرات المشاكل غير المتوقعة التي من الممكن أن تنشا فجأة وتتطلب قرارا سريعا غير قابل للتأجيل.. منذ نصف قرن كان الكوماندا يحصل علي ثلاثة جنيهات يوميا بينما كان الأسطي يحصل علي ثلاثين قرشا فقط. الثقافة الاشتراكية تقضي بطبيعتها علي الأسطوات وتمنع بذلك ظهور الكوماندا فلو ظهر صانع ماهر مثقف في ورشة ما في القطاع العام فسيكون مكانه الطبيعي هو لجنة الاتحاد الاشتراكي المنبثقة عن لجنة كيت وبعد ذلك سينفتح أمامه الطريق ليمثل العمال في مجلس الشعب هؤلاء العمال الذين لم يعد يعرف عنهم أي شئ. من الطريف ومن غرائب السياسة أن الثقافة الاشتراكية تحتقر العمل والعمال بالرغم من كل قصائد المديح التي تكيلها للعمل والعمال لدي ألف دليل علي ذلك.. هذا الصانع الماهر المثقف ستتم مكافأته بالابتعاد عن الماكينات والعمل الشاق كل ماهو مطلوب منه هو الوعي بخطورة الإقطاع ورأس المال المستغل والبورجوازية البشعة التي تستغل البلوتاريا وتشفط دماءها وتمصها بالمصاصة الرأسمالية هم خمسون كلمة بالكتير يحفظهم فيتحول إلي نجم تليفزيوني. السيد سوني كان يتكلم علي أن بيوت اليابان كلها في أعقاب الحرب الثانية تحولت إلي وحدات إنتاجية صغيرة هذا هو أيضا ماكان يحدث في دمياط وكنا نراه من طبائع الأمور أحياء بأكملها في كل بيت منها نول خشبي ينتج أنواعا فاخرة من الأقمشة والملاءات اللف السوداء تلك الملاءة التي أزعم أنها أجمل رداء لامس جسم المرأة في طول التاريخ وعرضهوفي أحياء أخري كانت المساحة الصغيرة تحت السلم تستغل كورشة أحذية صغيرة بنك واحد في ذلك الوقت من الأربعينات كانت دمياط تصدر الأحذية إلي إيطاليا والموبيليا إلي فرنسا. لقد تسببت الحرب الثانية في متاعب للصناعة في دمياط في مجال صناعة الأحذية بالتحديد بعد أن تعذر استيراد المسامير الصغيرة التي تدخل في صناعتها وهنا إسمح لي أن أحدثك عن كيفية صناعة الحذاء الدمياطي القديم والا تحب أكلمك عن الإمبريالية اللي عاوزة تودينا في داهية هناك قالب خشبي يوضع عليه الجلد ويتم تثبيته بالمسامير الصغيرة في نعل خفيف في جسم القالب نفسه هذا النعل الخفيف يسمي " الباطس" أما الخياطة نفسها فتسمي " البطمة" في الغالب الكلمة مشتقة من كلمة "Bottom" أي الداخلي أو الباطني أو الأساسي. الجلد الآن مثبت في القالب الخشبي وفي النعل الداخلي وعلي الصنايعي أن يخلع المسمار وأن يخيط غرزة مكانه بالخيط الذي تم تشميعه ليكتسب قوة ومرونة من الطبيعي أنه عندما يستحيل الحصول علي هذا النوع من المسامير أن تتوقف صناعة الأحذية علي الفور كان لابد من حل.. تري ماهو؟ هنا يبدأ دور الخيال الدمياطي الذي يسميه البلهاء بخلا هذا المسمار المخلوع معووج ولا يصلح للاستخدام مرة أخري.. ولكن ألا يمكن أن يعتدل؟.. نعم يمكن أن يعتدل بضربة واحدة من شاكوش صغير علي جسم صلب و يمكن استخدامه مرة أخري.. هكذا ظهرت إلي الوجود صناعة جديدة أمام الورش وفي البيوت حجر بازلت أسود صغير من ذلك النوع الذي كانت ترصف به الحواري أيام الرقي والتحضر ومسامير معووجة وشاكوش وطفل صغير وبضربة واحدة من الطفل علي المسمار يعتدل ويصلح للاستخدام مرة أخري... الأوقية بكذا. بعد ذلك يتم خياطة النعل الأساسي في ذلك النعل الثانوي وهي الخياطة التي كانت تسمي " الغظمة" التي فشلت في معرفة أصلها من المحتمل أن تكون النطق المشوه أو بلغة أخري لكلمة " الجزمة" خاصة وأن اللغة العربية تعرف كلمة واحدة هي الحذاء أو المركوب( أريدك أن تلاحظ أن المطبوعات العربية لا تعترف بالجيم المصرية وتكتبها غين مثل.. ديغول وبذلك تكون الغين في كلمة غظمة هي أصلا جيم ويكون النطق الصحيح لها جزمة أو جظمة ولكن تلك قصة أخري) السيد سوني مازال مستمرا في الحديث عن الأسرة المنتجة ويعود خيالي إلي مرحلة من التاريخ لم يكن فيها السيد سوني قد ولدتطفو علي السطح في ذاكرتي دور المرأة لقد انتهت من أداء شغل البيت كنست وغسلت ومسحت وطبخت ولا توجد مسلسلات في التليفزيون لأنه لم يكن قد وجد بعد في تلك اللحظة سيتحول ركن من البيت إلي ورشة صغيرة منتجة ستمسك بالخيوط الملونة وتبدأ في عمل إطار جميل لمنديل الرأس ( المنديل أبو أوية) هو منديل جميل حل محله الحجاب الآن أو تجلس إلي ماكينة الخياطة البرودريه وتقوم بعمل زخارف لقمصان النوم.. أو لمفارش السراير وكل ما تنتجه سيحتل مكانه في واجهات المحلات كل فتاة عليها أن تقوم بعمل ما داخل البيت يعود عليها بدخل ما ستكون في حاجة إليه عندما تتزوج هناك أشياء كثيرة سيكون البيت في حاجة إليها عليها أن تقوم بتجهيزها منذ الآن. يقول المثل الأمريكي _ No Free Lunch_ أي أنه لايوجد غداء ببلاش.. أما الدمياطي فيعترف بوجود الأشياء المجانية غير أنه يحددها في صراحة وقسوة مذهلة وذلك عندما يقول" مافيش حاجة ببلاش إلا العمي والطراش" هذه هي السلع الوحيدة التي تحصل عليها بغير أن تدفع ثمنا لها.. في الاقتصاد الحر عليك أن تقدم شيئا لتحصل علي مقابل له لاتوجد أشياء مجانية علي الأرض.. كل شعارات الدنياعاجزة عن الحصول علي ساندوتش... وفي اللحظة التي تحصل فيها من أي مخلوق علي شئ مجاني فتذكر المثل الدمياطي.