أدرك محمد على عام 1822 أهمية السودان بالنسبة إلى مصر فضمها إلى حكمه، لتصبح الدولتان شعبًا وبلدًا واحدًا، لكن بعد احتلال إنجلترا لمصر سعت إلى تفتيت تلك الوحدة، حتى نجحت فى ذلك عام 1899 بتوقيع «اتفاقية الحكم الثنائى بين مصر وبريطانيا»، ليصبح السودان ما تسبب بعد ذلك فى أزمة كبيرة، ففى عام 1924 تم اغتيال السير «لى ستاك» حاكم عام السودان خلال وجوده بالقاهرة، لتلقى بريطانيا مسئولية الحادث على مصر، وترتب عليها إخراج الجيش المصرى من السودان. وبعد قيام ثورة يوليو، كان الرئيس محمد نجيب يؤمن بحق السودانيين فى تقرير مصيرهم، وفى 12 فبراير 1953 تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتى للسودان بين مصر وبريطانيا، وفى يناير 1956 سافر الرئيس جمال عبد الناصر إلى الخرطوم ليعلن عن استقلالها أمام البرلمان السودانى. لكن ظهر على السطح بعد ذلك بعض الأزمات بين البلدين، أهمها النزاع حول مثلث حلايب وشلاتين، فالمنطقة منذ عام 1956 ظلت مفتوحة أمام حركة التجارة بين البلدين، لكن الأزمة اشتعلت مجددًا فى عام 1992 بعد ظهور بوادر لوجود آبار للبترول بحلايب، ما جعل حكومة الخرطوم تتعاقد مع شركة كندية للتنقيب عن البترول، لتقوم مصر وقتها بالاعتراض، وترسل بعض قوات الجيش، وفى عام 1995 فرضت مصر سيطرتها بالكامل على المثلث بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال مبارك. الرئيس السودانى عمر البشير يحاول من وقت لآخر فتح الملف المثلث من جديد، ويخرج بتصريحات مثيرة للسخرية، يطعن فيها على ملكية مصر لحلايب وشلاتين، وادعى «البشير» أنه ينوى وضع خارطة طريق لإنهاء الوجود المصرى فى مثلث حلايب الحدودى، وإعادة ترسيم الحدود بالسودان، مؤكدًا أن السودان تمتلك وثائق تثبت أن حلايب سودانية الأصل، وليست مصرية طمعًا فى الحصول عليها ومحاولة ضمها للسودان، حيث إنها تمثل أهمية استراتيجية واقتصادية فتبلغ مساحتها نحو 22 ألف كيلومتر، أى ما يعادل مساحة ولاية الجزيرة السودانية، لكن «البشير» يحلم فالمنطقة مصرية، ويوجد العديد من الوثائق تؤكد ذلك، علاوة على سيطرة الجيش المصرى على هذه المنطقة الحدودية. فمن غير المنطقى أن تتم إعادة فتح هذا الملف الشائك حاليًا، الأمر الذى اعتبره المحللون محاولة لاسترضاء الشعب السودانى، خاصة مع وجوده فى الحكم فترة طويلة دون انتخابات، بالإضافة لحالة القمع الذى يعيشه الشعب السودانى، علاوة على تردى الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية هناك خاصة بعد انفصال جنوب السودان، وأصبح الوضح الداخلى فى السودان يسير من سيئ إلى أسوأ. العجيب أن «البشير» فتح هذا الملف خلال هذا التوقيت رغم أن الملف مغلق منذ عقود، فالحكومة السودانية جددت شكواها لمجلس الأمن الدولى، حول منطقة حلايب وشلاتين المتنازع عليها مع مصر، وطالبت اللجوء إلى التحكيم الدولى. قصة التصعيد بدأت فى عهد الرئيس المعزول محمد مرسى الذى قاد مصر إلى الانهيار خلال فترة توليه الحكم لمدة عام، حيث وعد بتسليم حلايب وشلاتين للسودان، وأعطاها الفرصة لتتجرأ على مصر، ما أدى إلى طلب الخرطوم فى إبريل الماضى التفاوض المباشر مع مصر حول منطقة حلايب وشلاتين، أو اللجوء للتحكيم الدولى، الأمر الذى رفضته مصر بشدة، حيث أكد الرئيس السيسى أن اللجوء للتحكيم الدولى يتم بموافقة الطرفين، مؤكدًا أن حلايب وشلاتين أرض مصرية تخضع للسيادة المصرية، وليس لدى مصر تعليق إضافى على تصريحات الرئاسة أو الخارجية السودانية، التى تصدر من وقت لآخر بيانات وتصريحات عارية تمامًا من الصحة، بغرض استفزاز الشعب المصرى والحكومة، ما سيقود فى النهاية إلى نزاع أو حرب محتملة بين الدولتين، واللافت للانتباه أن العلاقات بين مصر والسودان تأتى فى أوج صورها، حيث إن الرئيس السيسى كان يعد من أوائل الرؤساء الذين تحدثوا مع الرئيس البشير للاطمئنان عليه وعلى صحته أثناء مرضه، ما يدل على استقرار العلاقات بين البلدين، لكن المشكلة هى ارتباط قضية حلايب وشلاتين بملف تيران وصنافير، حيث إن حكم المحكمة الذى صدر مؤخرًا حول مصير جزيرتى تيران وصنافير، اللتين كانا محط نزاع بين مصر والسعودية شجع السودان على إثارة قضية حلايب وشلاتين، حيث تعتبر قضية مزمنة بين مصر والسودان تكاد لا تهدأ حتى تعود للاشتعال مع كل عارض للخلاف بين الدولتين رغم العلاقة التاريخية الوثيقة بينهما. فيما أرجع البعض وجود علاقة خفية بين إثارة فتح هذا الملف حاليًا باستكمال سد النهضة، وتأثيره على مصر والسودان حيث تعمد الجانب السودانى إثارة ملف حلايب وشلاتين، لتصعيد الموقف ضد مصر، وتبرير موقفه الإيجابى من التقرير الخاص بسد النهضة الإثيوبى الذى صدر إبريل الماضى، كذلك يأتى انعكاسًا لدعم مصر وتحسين علاقاتها مع دولة جنوب السودان، وهو ما يثير خوف السودان من التأثير على علاقة مصر بها. تقع منطقة حلايب وشلاتين على ساحل البحر الأحمر فى المنطقة الحدودية بين مصر والسودان، وتبلغ مساحتها 22 ألف كيلو متر مربع، وتعتبرها مصر عمقًا استراتيجيًا مهمًا لها، لكونها تجعل حدودها الجنوبية على ساحل البحر الأحمر مكشوفة ومعرضة للخطر، وهو الأمر الذى يهدد أمنها القومى، كما تنظر السودان إلى المنطقة باعتبارها عاملًا مهمًا فى الحفاظ على وحدة السودان واستقراره السياسى، ولهذا أعلنت السودان مارس الماضى، عن حسم قضية منطقة مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد الحدودية، وترحيب المصريين بذلك، نظرًا لادعائها وجود وثائق تثبت سودانية حلايب وشلاتين. قضية حلايب وشلاتين ليست بجديدة، فقد أثيرت عدة مرات بين البلدين منذ عام 1958، وفى عهد الرئيس الأسبق مبارك، وكانت لمصر وقتها سيادة على الدول الإفريقية، وبعدها أثيرت فى عهد المعزول محمد مرسى، الذى حاول التنازل عنها للسودان، لكن هذا هراء حيث إنها تعد ضمن الأراضى المصرية بموجب اتفاقية الحكم الثنائى الإنجليزى المصرى عام 1899 التى سمحت لبريطانيا بتقاسم حكم السودان مع مصر. ومع إعلان مصر اتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية، والتى تنازلت بموجبها عن جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، وهو الأمر الذى لم يقره القضاء المصرى، هذا الأمر شجع السودان وقتها للإعلان أن حلايب وشلاتين تابعتان لها. ورغم هدوء العلاقة بين مصر والسودان حاليًا، إلا أنه يوجد عدد من الأزمات غير المعلنة على السطح، حيث تسود بين الخرطوموالقاهرة أزمة مكتومة منذ أن أطاح الجيش المصرى بمحمد مرسى أول رئيس ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين، وبعدها ترددت أنباء عن استقبال السودان عددًا من قيادات جماعة الإخوان ضمن قطاع من المصريين. كذلك اتهم البشير القاهرة بدعم حكومة دولة جنوب السودان التى انفصلت عن السودان فى يوليو 2011، مدعيًا إمدادها بالأسلحة والذخيرة فى حربها ضد قوات المعارضة بقيادة رياك مشار النائب المتمرد على سلفا كير، ما أضعف دولة السودان، وشجع قطاع الشرق السودانى والنيل الأزرق على التمرد هو الآخر، الأمر الذى سيؤدى إلى قيام بعض الأقاليم بطلب الاستقلال كإقليم دارفور المتنازع عليه، ما يؤدى إلى هلهلة دولة السودان. ويعد مثلث حلايب من أغنى بقاع الأرض، لكن سكانه هم الأفقر، إذ يحتوى على معادن كثيرة يأتى على رأسها الذهب، ويبعد المثلث عن القاهرة بحوالى1300 كيلو متر، ويقع على ساحل البحر الأحمر، وبه ثلاث بلدات كبرى هى حلايب وأبورماد وشلاتين، وتعد شلاتين هى الكبرى، ويقع فى الجنوب الشرقى منها جبل علبة، وهى المنطقة التى تتبع مصر إداريًا، بحكم ترسيم الحدود عبر اتفاقية مع الاحتلال البريطانى، ويقع مثلث حلايب داخل الحدود المصرية وأغلبية قبائل البشارية والشنيترات والعبابدة والرشايدة الذين يقيمون فى حلايب وشلاتين من أصول مصرية. وتوجد بهذه المنطقة نقطة للتبادل التجارى بين مصر والسودان، تسمى الحصيرة، وهى عبارة عن مربع محاط بأسلاك شائكة يخضع لإدارة الوحدة المحلية لمدينة شلاتين والقوات المسلحة المصرية وحرس الحدود، والتى وضعت شرطًا للعمل بالمنطقة، وهو استخراج تصاريح العمل بهذه المنطقة من المخابرات. كما تحتوى منطقة حلايب وشلاتين على كميات ضخمة من الذهب، أهمها منطقة ميسبة وغرب جبل أورجيم، ويعد جبل الأنبط بشلاتين من أغنى الجبال التى تحوى كميات هائلة من الذهب، كما تم اكتشاف مناجم فحم والعديد من الثروات المعدنية، والغريب عدم وجود شركات قومية تستغل تلك الثروات. وتعد «الجمال» من أهم ثروات حلايب التى يتم استيرادها بكميات ضخمة من السودان، كذلك فهى غنية بالثروة السمكية، وتتميز بخصوبة أراضيها التى تعتمد فى ريها على المياه الجوفية والأمطار. وقد جذبت منطقة حلايب آلاف السودانيين بسبب الخدمات التى توفرها الحكومة المصرية، والتى تنعدم فى كثير من المناطق فى السودان، حيث تقدم مصر لأهالى المنطقة مساكن مجهزة بجميع الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء دون مقابل، بالإضافة إلى خدمات الرعاية الصحية، والتعليم المجانى، علاوة على معاش شهرى لكل الأشخاص الذين تجاوزوا الستين بجانب تقديم مبالغ مالية للعاطلين ومصروف يومى لتلاميذ المدارس. ومن المثير للضحك أن السودان تدعى ملكية مثلث حلايب، رغم أن الوثائق تؤكد أن السودان نفسها كانت قطعة من مصر، والتاريخ يثبت ذلك. وفى النهاية، ليس أمام السودان سوى طريق واحد، هو الاعتراف بالتاريخ والواقع والكف عن الحديث عن هذه القضية الجدلية، والنظر إلى ما يفيد البلدين والشعبين، والابتعاد عن القضايا الخلافية التى لا تهدف سوى لإثارة المشاكل، خاصة أن السودان تثير الأزمة من وقت لآخر عبر تقديمها شكاوى لمجلس الأمن، ومصر تكتفى بالرد على ادعاءات السودان بأن المنطقة مصرية، وفى النهاية فإن الأزمة مجرد شو إعلامى بين البلدين.