ذهب المبشر دويت مودي يوما إلى أحد السجون المنسية في أطراف الحياة الآدمية، والذي أطلق عليه قاطنوه لقب المقبرة، وألقى في الموتى هناك موعظة بليغة دحرجت الدموع من مآقيهم فوق أرانب أنوفهم. وبعد أن تناول وجبة دسمة مع آمر السجن، ذهب في جولة تفقدية للأقفاص البشرية، والتقى هناك بالروائح العطنة والوجوه الكالحة والجدران الرطبة والذكريات المحبوسة. سأل الرجل سكان المقبرة واحدا بعد الآخر عن ذنبه، فأنكر المنفيون جرائرهم، وتلحفوا بجلود الحملان، إلا رجل واحد. انفجر ذلك الرجل في نوبة بكاء هستيرية وستر وجهه الغارق في بحر من الدموع بكفيه وهو يغالب نشيجه ويقول: "لا طاقة لي يا سيدي على احتمال ما اقترفته من ذنوب." فقال مودي وقد أصابه شرود مفاجئ: "فلتحمد الرب على ذلك يا رجل." حمدا لله على أخطاء نتعلم منها ونتوب عنها وتدفع أقدامنا الشاردة عن بوصلتها إلى ميادين الصدق وساحات السماوات الرحبة. حمدا لرب يغفر الزلات ويستر العيوب ويمحوها وإن كانت مثل زبد البحر بمجرد أن نرفع الأكف أو نذرف قطرات الندى الموسمي الذي لا يهطل على وديان قلوبنا الجافة إلا ليطهرها من أدرانها ويغسلها بالماء والثلج والبرد. حمدا لرب لا يمل من أخطائنا ولا من وقع أقدامنا وطرقات أيادينا في ظلمات الليالي الحالكة. وشكرا لكل من يحمل بين أضلاعه قلبا يضج بسواده ويضيق ببعده القسري عن ملكوت الخير والطاعة حتى حين. وحمدا لكل من حمل في سويداء قلبه نبضا يتجاوب مع أنين أصحاب المعاصي والزلات في ليل الندم البهيم. وطوبى لمن رحم عبدا يستطيع أن ينتقم منه أو ينكل به أو يثأر منه تعاطفا مع بشريته الخطاءة الجاحدة. وسقيا لمن وقف عند أستار الكعبة ذات انتصار أمام قوم آذوه وجردوه وأتباعه من مالهم وأخرجوهم من ديارهم وفتنوهم وقاتلوهم حتى يردوهم عن دينهم، فما كان منه ذات استطاعة إلا أن قال في تواضع جم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء." الصفح إذن كان سر تقاطر الناس أفواجا على هذا الدين الذي لم يحمل أصحابه كرها ولا سخيمة ولا غلا لأحد، وكانوا يغضبون لله، فإذا تهجم عدو لله على ذواتهم صفحوا عنه وتركوه حتى يلقوا الله بوجوه لم تتمعر إلا غضبا له وسخطا على أعدائه. لهذا تحول النورانيون من الصحابة إلى فنارات تقود سفن أرواحنا الحائرة في بحار الحياة المضطربة، فأصبح الواحد منهم قبسا في ظلمات الحياة يهتدي بنوره كل من كره الظلمات وبحث في غياهب الماضي عن أثر يقود قدميه الحائرتين نحو الطريق. كم مرة ضربنا الميادين بأقدامنا وتعالت صيحاتنا ونحن نسب ونلعن ونهين ونتوعد، وكم مرة تخاذلنا عن قيمنا وبعنا ثوابتنا مقابل عرَض زهيد لا يسمن ولا يغني من ضنك. وكنا نعود في كل مرة تعجبنا فيها كثرتنا وانتفاخات حناجرنا بخيبة تلو خيبة، حتى أذن الله لنا بخروج مشروط من صناديق الوطن الضيقة إلى صناديق اقتراع خالفت انبطاحنا المهين أمام واقع مرتكس. لكننا لن نبارح مواقع أقدامنا الصلصالية إلا بمليونيات لم شمل يصفح فيها من ظُلم عمن أهان أو خان أو ظَلم. نحتاج في لحظتنا الراهنة إلى صكوك غفران تمنح للجميع دون قرابين من معذرة أو أسف، فقد تقاسمنا كلنا مواسم الأخطاء وارتكبنا جميعا كافة الحماقات في حق الوطن. ليس يوم ملحمة هذا ولا يوم شماتة بمن شهّر أو تآمر. نريد أن يتنسم اليوم جميع الكائنات فوق ظهر هذه البلاد التي تحولت بفعل الخصام الفاجر إلى مقابر متباعدة عبير حرية يقسم على الجميع دون النظر إلى هوية أو النظر في التماس. في استقبال رسمي لأعداء الجنوب إبان الحرب الأهلية في أمريكا، أشار ابراهام لينكولن في خطابه إلى خصومه بلفظ "المخطئين"، فثارت ثائرة سيدة من أبناء الشمال، وطالبته أن يعتذر ويصفهم بالأعداء الفاجرين، فقال لها الرجل في نبرة هادئة: "ألا يتخلص المرء من أعدائه يا سيدتي حين يحولهم إلى أصدقاء؟" يقول تشابين: "لا ترتقي النفس حتى تتجاوز الأحقاد وتسمو فوق جراحها." عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]