تعالَوْا نتكلم بصراحة، وبلغة الكلام العارى، فتلك اللحظة من تاريخ الوطن تحتاج إلى المصارحة الكاملة، فالأزمة الخطيرة التى نعيشها الآن تتلخص فى ثلاثة محاور مترعة بالشك والخوف من نيات الآخرين، المحور الأول: خوف المجلس العسكرى من "نيات" الرئيس الجديد الذى يمكن أن تأتى به الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهل يملك العقلية التصالُحية أم ينتوى الصدام والمواجهة وتصفية الحسابات مع المجلس العسكرى، وهل يمكن أن يتم الإضرار بأعضاء المجلس بأى صورة، كعزل المجلس أو بعض قياداته أو تقديم بعضهم للمحاكمة، كل هذه المخاوف مطروحة بقوة، وتمثل الخلفية الحقيقية لدفع المجلس العسكرى بعمر سليمان فى سباق الرئاسة إما لتمريره إن أمكن أو الاستفادة منه فى خلط الأوراق ودفع الأمور إلى تأجيل انتخابات الرئاسة ليبقى الحكم والسلطة فى يد العسكرى، وأما المحور الثانى فإن هناك مخاوف لدى الإخوان المسلمين من أن "نيات" المجلس العسكرى تجاههم ليست حسنة، وخاصة بعد محاولات المجلس إظهار البرلمان فى صورة الكيان الهش، والذى لا ينجز شيئًا وتعمده حرمان البرلمان من مساءلة الحكومة وعزلها وتشكيل حكومة وطنية انتقالية، بمعنى حرمان التيار الإسلامى بكامله على الرغم من حصوله على الغالبية البرلمانية من أن يمتلك أى "سلطة" حقيقية لإدارة شؤون البلاد وتلويح بعض قيادات العسكرى فى لقاءاتهم بالجماعة بأن طعن حل البرلمان دستوريًّا موجود فى "الدرج"، فكان أن دفع الإخوان بخيرت الشاطر من أجل إبلاغ رسالة للعسكرى بأنهم شركاء فى السلطة، ولن يتركوا حقهم وإذا فكرتم فى حل البرلمان ومنع الوزارة، فسندخل من باب الرئاسة، الجانب الثالث هو خوف القوى الليبرالية والثورية الأخرى من دفع الإخوان بمرشحهم أو مرشحيهم لمنصب الرئاسة؛ لأن هذا يعنى أن الإخوان "تكوّش" على السلطات جميعها، مجلس الشعب ومجلس الشورى والحكومة المتوقعة واللجنة الدستورية ثم رئاسة الجمهورية، وتصبح بقية القوى الوطنية مجرد هوامش ولاعبين على الدكة بدون مشاركة حقيقية، هذا هو "ثالوث" الشك والخوف الذى يقف فى خلفية المشهد المضطرب الآن، ولا يريد كل أطرافه أن يبوح به بكل وضوح إلا قليلاً. كيف نخرج بالوطن من تلك الأزمة والمخاوف، تلك هى القضية الحقيقية، وعلى الجميع أن يفكر الآن بصراحة وبصوت عالٍ، وأن يتم حوار وطنى جاد ومسؤول بعيدًا عن التصيُّد والمزايدات، ولا أملك أن أقدم رؤية لحل شامل فى هذا الموضوع، فذلك موكول إلى حوار القوى السياسية والمجلس العسكرى، ولكنى أتصور أن أى حل للتوتر والانسداد لا يأتى إلا عبر ثلاث بوابات، الأولى هى طمأنة المجلس العسكرى بضمانات كافية أنه لن يتعرض لتصفية حسابات من أى قوة سياسية تأتى إلى رئاسة الجمهورية، وأنه سيتم التعامل معه كجزء من الثورة وسند وشريك لخُطط النهضة والانتقال السلمى والآمن بمصر إلى الديمقراطية طوال المرحلة الانتقالية، والتى قد تمتد إلى فترتين رئاسيتين، والثانية هى طمأنة التيار الإسلامى بأن غالبيته البرلمانية سيتم احترامها وأن جميع أطراف المعادلة ستحترم ما تفضى إليه الممارسة الديمقراطية بدون أى تفكير فى الانقلاب على الديمقراطية، والثالثة هى طمأنة القوى الوطنية بشكل عملى وجاد بأن مسار الوطن الآن هو المشاركة وليس المغالبة، وأن حسابات اللحظة لا تُبنى على فرضية أقلية وأغلبية بالمطلق، وإنما بفرضية التوافق الوطنى فى كل الملفات المطروحة، وأن الهدف الأساس للجميع الآن هو الانتقال الآمن والكامل للسلطة من النظام القديم إلى القوى المدنية الجديدة بكل أطيافها وتيارات الوطن الحية. أعتقد أن الرسائل إذا وصلت إلى الجميع بشكل صحيح وجاد ومسؤول، فمن السهولة بمكان أن يقبل "العسكرى" منع الفلول من الترشح وتسليم السلطة فى النهاية للمرشح، الذى يختاره الشعب فى انتخابات نزيهة وشفافة، ومن السهولة أن يقبل الإخوان سحب مرشحيهم من الانتخابات لصالح توافق وطنى على مرشح واحد أو مجلس رئاسى يخوض الانتخابات بما يشبه القائمة الواحدة من خلال رئيس واتفاقات مكتوبة بعدة نواب له معبرين عن كل التيارات، ومن السهولة أن يمنح التيار الإسلامى تفويضًا لخبراء محايدين مؤتمنين بإعداد الدستور الجديد بما يحقق مطالب كل القوى الوطنية وتتشكل اللجنة الدستورية بشكل متكافئ وعادل، هل يملك الجميع القدرة على المصارحة؟، هل نملك شجاعة التنازل الجزئى المحسوب؟، هل نملك القدرة على إعلاء مصلحة الوطن على أى اعتبار آخر؟، بدون أى شك، فإن تصوُّر أى فصيل أو قوة أن الحل يمكن أن يتحقق وفق المعادلة الصفرية لصالح أى طرف هو خيال غير واقعى وغير جاد... والله أعلم. [email protected]