"بنقضي شم النسيم بين الأموات أرحم من العالم اللي بره"، عبارة مقتضبة شرحت حال الكثير من قاطني مقابر عزبة أبو قرن بمصر القديمة، بالتزامن مع ممارسة المواطنين لطقوس هذا اليوم الذي اعتاد المصريين على الاحتفال به من آلاف السنين. ثمة أناس يمكثون بجوار المدافن، لا يفرق بينهم سوى لافتات الموتى، فتطبعت معيشتهم مع سكون المقابر، فكل ما يشغل بالهم هو كيفية سد رمق أبنائهم، لاسيما وأنهم لا يمتلكون دخل ثابت في ظل تنقلهم بين المهن المؤقتة، مما حال تمكنهم من شراء الأسماك المملحة للاحتفال كغيرهم بأعياد الربيع.
مختبئة خلف عبائتها السوداء، حاملة بين تجاعيد جبهتها العديد من الروايات التي تشكل عبء عليها، لاسيما عقب انهيار احد جدران حريتها التي تقطن بها مع أسرتها المكونة من نجلتها وثلاث أحفاد، تقولها "أم عاشور" البالغة من العمر ستين عامًا.
"العيشة مع الأموات هدوء"، ترى المرأة السيتينية أن الحياة في العزبة أكثر سلاما، خاصة أنهم اعتادوا المعيشة وطبيعتها، فكل من بالمكان تتشابه حالتهم الاقتصادية، لذا جميع الأطفال لا يرون طقوس الاحتفالات بالخارج، "جبنا فسيح أو ماجبناش مش مهم عيالنا بتاكل الموجود.. ومهماش حاسين بحرمان وده المهم". على بعد خطوات تقبع "أم كرم" البالغة من العمر ثمانين عامًا، أمام "عشة" مصنوعة من البطاطين الرثة وبعض أغصان الأشجار، ممسكة بيدها عصى تتكئ عليها، محاورة المارة آملة في الحصول على قوت يومها" بستنى المناسبات علشان اعرف اكل.. ومن امبارح عارفة ان في شم النسيم وصحيت بدري زي ما اهلي عودني علشان اخد رحمة اليوم ده من الناس.. في ناس بتوزع بيض ورنجة لكن الفسيخ ده للناس الغنية.. ما كلتوش من سنين". منذ أكثر من خمسون عامًا تسكن سمية حسين، المقابر، حتى زوجت أبنائها عدا شاب في العقد الثاني من العمر" ورثت الاوضة دي عن ابوية وكانت بالطين وبعدين لما ربنا كرم جوزي عملناها بالطوب الأحمر"، مسترجعة ذكرياتها في هذا اليوم بأنه كان من أهم طقوسهم تلوين البيض، وشراء الرنجة، وكان يوم لتجميع العائلة برفقة الموتى، وكان لا يهيبهم شئ، أما الأن الأسعار قتلت فرحتنا حتى بهذه الحاجات البسيطة.
الفول والطعمية البديل عن الأسماك المملحة، تقولها المرأة الخمسينية: "جوزي بيشتغل على عربية كارو بيشتري الروبابكية ويبيعها يوم في والتاني مفيش.. فامكانيتنا ما تسمحش غير بكده والغدا النهاردة كشري". وتحتفل فاطمة إبراهيم، بشم النسيم على طريقتها الخاصة، حيث تستيقظ من السادسة صباحًا لتجهيز "الرقائق" لتستقبل به نجلتيها واحفادها"بنحاول نعيش زي الناس واهو بنفرح عيالنا.. وكده كده عندي الضغط ومش هاكل فسيخ ورنجة واتعودنا خلاص من سنتين لما غليت مش بنحبها".