وفاة أربعة شباب فى حادث الطائرة .. و12 ألف شاب يحملون الجنسية الفرنسية سادت أرجاء القرية أصوات الصراخ والعويل بعدما استيقظ أهلها على خبر وفاة أربعة من أبنائها فى حادث الطائرة القادمة من فرنسا، وتساقطت الدموع حزناً على فراقهم، وخرج الأهالى هائمين فى الشوارع، وكتبوا على جدران منازلهم «حداد» على أرواح شهداء الطائرة.. هكذا كان المشهد فى قرية «ميت بدر حلاوة» التابعة لمركز سمنود بمحافظة الغربية. هؤلاء الشباب اختاروا نار «الغربة» فسافروا منذ سنوات أملاً فى تحسين أوضاعهم المادية، وتخليص أهاليهم من الفقر المدقع الذين يعيشون فيه، فخرجوا خلف آلاف الشباب الذين سبقوهم لذات الغرض، ولنفس البلد «فرنسا»، حتى تمكن الكثير منهم من تحقيق هدفه، لتتحول «ميت بدر حلاوة» إلى قرية فرنسية على أرض مصرية، يهجرها الفقر، ليتحول اسمها إلى قرية «الأثرياء». لكن لا شىء أصعب فى الحياة من فقدان فلذة الكبد، وهو ما جعل الأهالى يتحسرون على سفر أبنائهم بعدما كانوا يتسابقون فى بيع كل ممتلكاتهم لتسفير أبنائهم، مرددين: «ياريتهم ما كانوا سفروا ولا جابوا فلوس.. كنا نأكل ملح ولا أولادنا يتبهدلوا» بمجرد أن اقتربنا من منازل الضحايا، وجدنا أصوات الأهالى تتعالى بالصراخ، وذويهم يرقدون على الفراش مرضاً من صدمة نبأ وفاة فلذة كبدهم.. هكذا كان الحال داخل منزل هيثم سمير ديدح، أحد الشباب الذين سقطوا شهداء على متن الطائرة العائدة من العاصمة الفرنسية باريس. والده يرقد مريضاً مصاباً بصدمة عصبية حادة جعلته يفقد التوازن، وفاقداً للتركيز وأشقائه رفضوا الحديث نتيجة الحالة السيئة التى يعيشون فيها، حتى تحدث معنا ابن عمه محمد سعيد ديدح، قائلاً: الحزن يملأ قلوبنا بعد فقدانه ربنا يصبر والده ويخفف عنه الصدمة الكبيرة». وأضاف: هيثم الله يرحمه خرج من القرية منذ سنوات قليلة، واستطاع أن يُكون ثروة طائلة، والسبب جرأته فى دخول مناقصات ومزادات للشركة التى أسسها مع زوجته الفرنسية، التى أنجب منها طفلتين، وبتأسيسه لهذه الشركة استطاع أن يتربع على عرش أعمال المقاولات بفرنسا. وعندما زرت والده بعد حادثة وفاته مباشرة أخبرنى أنه لم يكن ينوى السفر على هذه الطائرة، وقال له فى آخر مكالمة تليفونية بينهما: «أنا رايح أحجز فى أى طيارة يا ابويا، الطيارة اللى هلاقيها هنط فيها»، حتى رد عليه قائلاً: «متنساش تجيب البنت معاك عشان عايز اشوفها»، ليرد: والله ياأبويا جايبها هتقعد معاك لحد شهر 9». تغازرت دموعه باكياً، قائلاً:» ياريته مكنش ركب الطيارة دى»، ليستكمل ابن عمه المحامى: قبل وفاته بأسابيع قليلة حدثنى تليفونياً بأنه يريد شراء «فيللا» كبيرة فى شرم الشيخ بمبلغ 3 ملايين جنيه. أهالى الضحايا الآخرين لا يختلف حالهم عن الحاج سمير ديدح، علامات الذهول والدهشة مرسومة على وجوههم، ممتنعون عن الطعام والكلام، غير قادرين على استيعاب خبر وفاة أولادهم المهندس خالد علام، وخالد طنطاوى نملة. لم يكن ما سمعناه ورأيناه أثناء تجولنا فى القرية من منازل ومولات تجارية ضخمة مشيدة على الطراز الفرنسى يجعلنا نترك هذه البلدة ونرحل قبل أن نعرف السر الرئيسى وراء سفر الآلاف من شبابها إلى فرنسا. 1- سر السفر إلى فرنسا عندما تقترب من أول شوارعها المعروفة باسم «ميدان الجسر»، تنتابك الدهشة من الفيللات الفارهة المصممة على الطراز الفرنسى، داخلها تجد تحفا وأنتيكات نادرة قد لا تجدها سوى فى المتاحف والبازارات السياحية. أغلب شباب القرية سافروا منذ سنوات إلى فرنسا، وبمجرد أن يبلغ الشاب هناك السن القانونية حتى يسافر مباشرة عن طريق شقيقه أو أحد أقاربه، هذه الشهادة أدلى بها محمد ديدح، المحامى الموكل إليه بإدارة أعمال هؤلاء الشباب فى القرية، متابعاً بنبرة تدل على المزاح: أنا قاعد هنا عشان اخد فلوسهم !» . وأضاف: أغلب شباب القرية يحملون الجنسية الفرنسية خاصة أنهم سافروا إلى هناك منذ عام 1978، وكان على رأسهم «صالح فارهود» الذى أصبح حالياً رئيس الجالية المصرية بفرنسا وهو من سكان قرية ميت بدر حلاوة، واصطحب معه آنذاك أربعة شباب كانوا من بين الأوائل الذين استقلت أقدامهم بباريس، وعملوا فى مجال تجارة الفاكهة والخضار حتى أصبحوا من أثرياء القرية. وكشف عن أن عدد شباب القرية المهاجرين إلى فرنسا حتى الآن وصل إلى 12 ألف شاب، منهم 4 آلاف سافروا بطرق شرعية، و8 آلاف بطرق غير شرعية وسنهم لم يتجاوز 17 عاما أو أقل من ذلك. شباب القرية يتمركزون فى منطقة «اوباربيلفيل» بباريس، حتى أن أحدهم قال لى أن هذه المنطقة على وشك تسميتها ب«ميت بدر حلاوة» خاصة أن عدد أبناء القرية أكثر من الفرنسيين المقيمين بها، وكذلك أبناء الجنسيات الأخرى. واختتم المحامى كلامه، قائلاً: طبيعة عملى مع الشباب أنهم أوكلوا لى التصرف فى كل ما يخص الأمور القانونية فى ثرواتهم مثل بيع أو شراء العقارات والأراضى الزراعية، وبعد سفرهم سميت البلدة ب«قرية الأغنياء» فلا يوجد بها فقير واحد، واللافت للنظر أن عددا لا بأس به من موكلينى الشباب لا يجيدون القراءة والكتابة وعلى الرغم من ذلك يحملون الجنسية الفرنسية ومتزوجين من سيدات فرنسيات. 2- عمدة المصريين فى فرنسا التقط منه طرف الحديث، عمدة شباب ميت بدر حلاوة المهاجرين إلى فرنسا يدعى الحاج محمد أبوقوطة، قائلاً: شباب القرية هم الركيزة الأساسية للأعمال الشاقة فى فرنسا مثل أعمال المعمار والمقاولات وتجارة الفاكهة والخضار واكتسبوا خبرتهم فى أعمال البناء ونقلوها داخل قريتهم فى تصميم منازلهم على الطراز الفرنسى، فأصبحت تحفا تراثية جميلة ترغب أن تتأمل فيها فى صمت. أبو قوطة سافر فرنسا منذ 32 عاما استقر فى باريس حتى تصاعدت مكانته وكون ثروة طائلة من التجارة فى الفاكهة، وأصبح عضوا بالغرفة التجارية الفرنسية ورقم عضويته 246، تزوج من سيدتين الأولى مغربية عندما تذكرها تساقطت دموعه حزناً على فراقها، وقفت إلى جواره وكانت أحد الأسباب فى نجاحه عندما وضع قدميه على أرض باريس. أما الزوجة الثانية ففرنسية الجنسية، أنجب منها طفلتين وفضلت عدم المجىء إلى قريته بميت بدر حلاوة، حتى أعلن تصفية حساباته وتجارته بفرنسا وقرر الاستقرار داخل قريته بميت بدر حلاوة، وفضل زيارة أولاده وزوجته على فترات متباعدة كل 6 أشهر. ويقول محمد أبوقوطة إنه كان سبباً رئيسيا فى سفر المئات من القرية للعمل فى فرنسا فى مجال تجارة الفاكهة وأعمال البناء والمقاولات، حتى شرفوه وذاع صيته وسط رجال الأعمال الفرنسيين هناك، وأصبحوا بمثابة النواة الرئيسية التى تعتمد عليها فرنسا فى مجال المقاولات وتجارة الخضار. اصطحبنا أبو قوطة إلى منزله بالقرية، فوجدناه مشيداً على الطراز الفرنسى، وقال لنا: هذه التصميمات ليست موجودة فى منزلى فقط، بل فى جميع منازل الشباب الذين سافروا باريس وعادوا إلى موطنهم. غادرنا منزل أبوقوطة لنعبر الناحية الأخرى من نفس الشارع لنجد منزلاً مشابهاً أكثر انجذاباً طرقنا المنزل آملين فى التحدث مع صاحبه لكن فوجئنا بخروج أحد العاملين فيه، قائلاً: لايوجد أحد هنا، ثم حدثنا بأن المنزل ملك لرجل يدعى شريف أبوعلى يعيش فى فرنسا منذ عشرات السنين، ولم يأت إلى قريته بميت بدر حلاوة، أنجب ولدا وبنتا يعيشان معه فى فرنسا، ويفضلون عدم المجىء إلى القرية والسبب أولاده الذين نظموا حياتهم على العيش داخل المجتمع الفرنسى بباريس بسبب طبيعة عملهم كأطباء فى فرنسا. 3- بيت العائلة جمعية تعاونية «لبدر حلاوة» مقرها باريس أثناء تجولنا فى القرية وجدنا محطة اتوبيس معلق عليها لافتة «إهداء من بيت العائلة فى فرنسا»، فسألنا أحد المارة ويدعى مصطفى حجاج، واكتشفنا أنه من الشباب الذين سافروا باريس عام 1994 وعمل فى مجال المعمار، وقال: بيت العائلة مقره فى منطقة «اوبار فيليا» يشرف عليه شخص من شباب القرية يدعى محمد شندى، ويعمل هذا الكيان على جمع الأموال من الشباب والرجال المقيمين هناك لصالح تنمية أوضاع القرية. وأضاف: هذا الكيان يقتصر فقط على أبناء القرية، ولا يجوز انضمام أى من أبناء القرى المجاورة إليه، ومهمته الأساسية مساعدة أهل القرية فى تطوير شوارعها وإقامة مشاريع مستقبلية فى السنوات القليلة المقبلة، ومن خلاله تمكن الأهالى من تشجير جميع شوارع القرية، وعمل محطة أتوبيس خاصة بالقرية وحدها، وإقامة قاعة أفراح خاص بشباب وفتيات القرية. وأوضح أن فكرة تأسيس «بيت العائلة» جاءت بعدما أصبحت القرية فى فترة من الفترات خالية من المياه الطبيعية، وكانت تحتاج وقتها إلى مليون جنيه لتركيب مواسير مياه، حتى سافر عمدة القرية إلى فرنسا، وأخبرهم بالأمر وحينها جمع أبناء القرية من بعضهم البعض أضعاف المبلغ، وتم تركيب المواسير، وباقى المبلغ تم إيداعه كوديعة فى البنك الأهلى. كانت المفاجأة التى فجرها الشاب مصطفى العائد من فرنسا حديثاً أن مسجد الروضة بباريس تم بناؤه على يد شباب ميت بدر حلاوة العاملين فى مجال المعمار، وبأموال «بيت العائلة» التى جمعوها من خلال إقامتهم هناك. 4- مولات تجارية على الطراز الفرنسى قرر عدد من شباب القرية بعد عودتهم من فرنسا طيلة سنوات عمرهم العمل على إنشاء مشروع تجارى ضخم يضم عدد 2 مول تجارى ليكون أول المولات التجارية التى سيتم بناؤها لأول مرة فى قرية ريفية فى مصر. المول يتكون من 10 طوابق، كل طابق سيكون مخصصاً لبيع أشياء مختلفة مثل اللاب توب وهواتف الجيل الرابع «اندرويد» والأجهزة الكهربائية بجميع أنواعها، فضلا عن الملابس الجاهزة، وكذلك السلع الغذائية.