في مثل هذا اليوم 12 مارس 1964 فقدت مصر "عباس محمود العقاد" الأديب والشاعر والمفكر والسياسي، بعد أن حفلت حياته بالكثير من المواقف والأحداث الهامة والمؤثرة ككاتب أحياناً وكسياسي أحياناً أخرى وكإنسان دائماً. شهادته الابتدائية ورحلته مع الوظائف الحكومية إن عباس محمود العقاد الذي نعرفه جميعاً، واحد من أهم الكُتاب والشعراء المصريين لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية من مدرسة في "أسوان" محل ولادته، ثم استلم وظيفته الحكومية التي لطالما كرهها وضاق بها ذرعاً، حيث كان يرى العقاد أن الوظيفة ما هي إلا نوع من أنواع الاستعباد التي يتميز بها القرن العشرين. ولكن كان لابد له من كسب قوت عيشه، فاشتغل "العقاد" بوظائف حكومية كثيرة منها مصلحة التلغراف، ومصلحة السكة الحديد، وديوان الأوقاف، حتى استقال "العقاد" من كل تلك الوظائف الواحدة تلو الأخرى لأنه كان يرى أن ما من أمل له في الحياة سوى الكتابة والصحافة، وحينما قرر إنهاء حياته كموظف حكومي كتب واحد من أهم مقالاته "الاستخدام رق القرن العشرين". لم يكن "العقاد" يرى أن الوظيفة الحكومية عار على أصحابها، بل كان يرى أنه لن يكون في مكانه الصحيح إذا ظل موظفاً، حيث كان يهمه للقراءة والكتابة والاطلاع هو المحرك الأول والرئيسي لكل خطواته. قال في موضوع كراهيته للوظيفة.. "ومن السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين. وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره. وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة كما كانت يومئذ عملا آليا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير في تلك الأداة" "إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها.. فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية.. إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين" لم يستطع عباس محمود العقاد استكمال مسيرته الدراسية بعد الحصول على الشهادة الابتدائية بالرغم من تفوقه ونبوغه، حيث لم يكون هناك مدارس حديثة حيث ولد بأسوان، ولم تكن أسرته تملك من المال ما يكفيها لإرساله إلى القاهرة ليكمل دراسته، لكن حبه وولعه بالقراءة والاطلاع كان أهم شيء في حياته على الإطلاق، تمكن العقاد بفضل قراءته واطلاعه، واصراره واتقاد ذكائه من العمل كصحفي بعد أن جاء إلى القاهرة وتتلمذ على يد المفكر والشاعر محمد حسين محمد. القراءة حبًا أكبر في حياته لم يتزوج عباس محمود العقاد مطلقاً، لكن الحب الأكبر في حياته كان القراءة، فقد كتب عن القراءة وأهميتها الكثير، فكتب مثلاً.. إن الكتب مثل الناس: فيهم الوقور والظريف، وفيهم الساذج الصادق، وفيهم الأديب والمخطئ، والخائن والجاهل، والوضيع والخليع ليس هناك كتابا أقرأه ولا أستفيد منه شيئا جديدا, فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته، أني تعلمت شيئا جديداً, هو ما هي التفاهة؟ وكيف يكتب الكتاب التافهون؟ وفيما يفكرون؟ القراءة وحدها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة, لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب القراءة ليست من الكماليات أو شيء للرفاهية, بل هي فريضة إسلامية .. ألم تسمع قوله تعالى (إقرأ) هذا أمر يقول لك المرشدون اقرأ ما ينفعك، ولكنني أقول أنتفع بما تقرأ لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني عمل عباس محمود العقاد أول ما عمل بالصحافة في جريدة الدستور سنة 1907 حتى توقفت الجريدة في عام 1912، ثم عمل بجريدة المؤيد، وجريدة الأهالي في 1917، ثم جرية الأهرام في 1919، وجريدة البلاغ في 1923 وارتبط اسمه بالأخيرة. السياسة ورحلة المتاعب اشتهر عباس محمود العقاد وذاع صيته بعد عمله بالصحافة، فقد كان ذو مواقف سياسية واضحة، تسببت له في الكثير من العناء والمتاعب، فبعد أن تعرف "العقاد" إلى الزعيم المصري سعد زغلول، دخل في معارك حامية الوطيس مع أعدائه، وكتب العديد من المقالات الصحفية في هذا الشأن. وعندما أنتخب عضواً بمجلس النواب بسبب مواقفه وشهرته الواسعة وقف تحت قبة البرلمان مهاجماً الملك فؤاد الأول أمام الجميع، لأن الملك أراد التغيير في الدستور وإسقاط مادتين تنصان على أن الشعب هو مصدر السلطات وأن الوزارة مسئولة أمام البرلمان. فقال "العقاد".. "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، الأمر الذي تسبب في حبسه تسعة أشهر سنة 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية. وفي العام 1943 اضطر العقاد للهروب من مصر إلى السودان لأنه أصبح على قائمات المطلوبين للعقاب على قائمة الزعيم الألماني النازي هتلر، نظراً لموقفه المعادي للنازية. قرر "العقاد" الابتعاد عن السياسة بعد أن اصطدم بسياسة الوفد تحت قيادة مصطفى النحاس سنة 1935. فابتعد العقاد عن السياسة والصحافة بالقدر الكبير، وازداد اهتمامه وتركيزه على التأليف، لكنه لم ينقطع عن المشاركة في تحرير عدة صحف مثل زور اليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر. مؤلفاته ألف "العقاد" الكثير من الكتب في مجالات عدة، فكتب في الأدب والتاريخ والاجتماع مثل: مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وأشتات مجتمعة في اللغة والأدب، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وجحا الضاحك المضحك، وبين الكتب والناس، والفصول، واليد القوية في مصر. وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين"، و"هتلر في الميزان"، وأفيون الشعوب"، و"فلاسفة الحكم في العصر الحديث"، و"الشيوعية والإسلام"، و"النازية والأديان"، و "لا شيوعية ولا استعمار". كما كتب في الدراسات النقدية واللغوية، كما أسهم في الترجمة إلى اللغة العربية فترجم مثلاً كتاب "عرائس وشياطين". تميز العقاد بمؤلفاته في الإسلاميات، أشهرهم على الإطلاق "سلسلة العبقريات"، وفي مجال الدفاع عن الإسلام كتب.. حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والفلسفة القرآنية، والتفكير فريضة إسلامية، ومطلع النور، والديمقراطية في الإسلام، والإنسان في القرآن الكريم، والإسلام في القرن العشرين وما يقال عن الإسلام. أما عن الشعر فقط كتب "العقاد" أول دواوينه الشعرية في ال27 من عمره، وترك لنا عشرة دواوين شعرية، حتى كان عباس محمود العقاد واحداً من أهم المفكرين المصريين في القرن العشرين، تُرجمت بعض كتبه ومؤلفاته إلى لغات أخرى منها الفارسية والأردية، كما أنه حاز على جائزة الدولة التقديرية في الآداب والتي رفض تسلمها، واختير عضواً في مجمع اللغة العربية بمصر سنة 1940، واختير مراسلاً لمجمع اللغة العربية ببغداد ودمشق. ألف عباس محمود العقاد أكثر من مائة كتاب، وعشرة دواوين شعرية، وكتب آلاف المقالات الصحافية على مدار حياته. أثبتت مسيرته الأدبية والسياسية والإنسانية أنه رجل استثنائي ذو صبر وإصرار، لم يستسلم لظروف فقر أو جهل