محافظ الجيزة يُدلي بصوته في انتخابات مجلس النواب 2025    تعيين الدكتور طه عاشور نائبا لرئيس جامعة بنها    الخط الرابع للمترو يستقبل طلاب هندسة طنطا للتعرف على أحدث أساليب حفر الأنفاق    ارتفاع أسعار الذهب فى مصر الخميس.. عيار 21 يسجل 5640 جنيهًا    سعر الأسمنت اليوم الجمعة 12 - 12-2025 فى الأسواق    سامي حجاوي: جهود أممية محدودة لإزالة النفايات في غزة    أونروا: الوضع في قطاع غزة مأساوي نتيجة المنخفضات الجوية| فيديو    التعادل السلبي يحسم نتيجة الشوط الأول من مباراة الاتحاد والمصري    أصداء الهزيمة أمام السيتي.. ريال مدريد يمنح ألونسو فرصة أخيرة    اتحاد الكرة يوافق على تأجيل مباراة الزمالك وبلدية المحلة 24 ساعة    مصرع وإصابة 18 شخصًا في حادث تصادم بصحراوى البحيرة    حملة تموينية على مخابز القنطرة شرق بالإسماعيلية وتحرير 10 مخالفات    المتحدة تفتتح موسما موسيقيا عالميا لحفلات المتحف المصري الكبير GEM Nights بحفل تاريخي للعازف العالمي هاوزر    وزير الثقافة يستقبل سلوى بكر ويهديها درع الوزارة    أشرف زكى: عبلة كامل مختفية عن الأنظار.. ونشكر الرئيس على رعاية كبار الفنانين    رئيس الوزراء يتابع مع «الغمراوي» تفاصيل تنفيذ مشروع التتبع الدوائي    ميدو: صلاح يجب أن يغادر ليفربول.. وأشجعه على خطوة الدوري السعودي    الحكومة تكشف حقيقة انتشار جنيهات ذهبية مغشوشة في الأسواق    خسارة أبو قير بثلاثية، نتائج مباريات اليوم الخميس في دوري المحترفين    «صحة قنا» تعقد اجتماعًا بمديرى المستشفيات لتعزيز جاهزية منظومة الطوارئ والرعاية الحرجة    حبس عاطل بتهمة التحرش بفنانة شهيرة أثناء سيرها بالشارع في النزهة    حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية طريق القاهرة الصحراوي..وفاه شابين وإصابة ثالث في انقلاب سيارة ملاكي    «المشاط» تبحث مع بنك الاستثمار الأوروبي نتائج زيارته لمصر    أول ظهور لمعلم واقعة المقص بالإسماعيلية    ضبط شخص بحوزته كروت دعائية وأموال لشراء أصوات الناخبين في الأقصر    مهرجان القاهرة السينمائي الدولي يعلن موعد دورته ال47    تطورات الوضع في غزة تتصدر مباحيات الرئيس السيسي وملك البحرين    تجارة عين شمس تحتضن قمة أكاديمية حول الذكاء الاصطناعي    الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن فوز مصطفى البنا وحسام خليل بالدائرة الثانية بأطسا    بعد 7 أيام بحث.. لحظة اصطياد «تمساح الزوامل» بالشرقية    قضية الرشوة.. تخفيف حكم المؤبد للسجن 7 أعوام بإعادة محاكمة رئيس حي شرق الإسكندرية    الرئيس السيسى وملك البحرين يشددان على ضرورة التنفيذ الكامل لاتفاق وقف الحرب في غزة وضمان نفاذ المساعدات    محمد سيحا يستعد لقيادة حراسة الأهلي في أول ظهور رسمي مع الفريق    منشور مثير من نجل سائق محمد صبحي بعد انفعال الفنان على والده    ختام برنامج تدريبي حول إنتاج تقاوي الأرز لمتدربين أفارقة    الليلة.. قناة الوثائقية تعرض فيلم محفوظ وهي    هدى المفتي ضيفة برنامج آبلة فاهيتا.. السبت المقبل    حكم كتابة الأب ممتلكاته لبناته فقط خلال حياته    منحة أوروبية لتمويل إنشاء 5 صوامع حقلية في مصر    الضباب الكثيف يلغي عددا من الرحلات الجوية إلى مطار حلب بشمال سوريا    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لمشروع تطوير مدينة النيل الطبية    الصحة العالمية: ارتفاع حالات الأنفلونزا بالعالم لكن لم نصل بعد لمرحلة الوباء    ضربات أمنية لضبط الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    الخارجية السورية: إلغاء قانون قيصر يمثل انتصارا    محافظ المنوفية يسلم 45 كرسي متحرك ومساعدات مالية وعينية لذوي الهمم    سباليتي: أداء يوفنتوس أمام بافوس كان محرجا في الشوط الأول    القوات الروسية تسيطر على بلدة بخاركيف    رئيس هيئة الاستثمار يشارك في احتفالية شركة «قرة إنرجي» بمناسبة مرور 25 عامًا على تأسيسها    مؤسسة هولندية تتبرع بأجهزة ومعدات قيمتها 200 مليون جنيه لدعم مستشفى شفاء الأطفال بسوهاج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11-12-2025 في محافظة الأقصر    المستشار أحمد بنداري: فتح آخر لجنة بمنشأة القناطر بعد تعطل سيارة القاضي    الدفاع المدني بغزة: تلقينا 2500 مناشدة من نازحين غمرت الأمطار خيامهم    كأس العرب| طموحات فلسطين تصطدم برغبة السعودية في ربع النهائي    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    "ميد تيرم" يتصدر تريند تيك توك مع أولى حلقاته على قناة ON    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاجة البشرية إلى الوحي
نشر في الفجر يوم 15 - 02 - 2016

لحظة مهيبة أعتقد أنها الأهم في تاريخ الأرض بكاملها، وكانت تتكرَّرُ كلَّ عدَّة سنوات، غير أنها في هذه المرَّة كانت قد انقطعت عن الأرض أكثر من ستمائة عام، وأعني بها لحظة التقاء الوحي بالبشر؛ إنَّ هذه اللحظات لمهيبة بشكل عامٍّ؛ لكن أعتقد أنَّ أكثرها مهابة كانت المرَّة التي التقى فيها وحي السماء عن طريق جبريل عليه السلام مع رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
لحظات مهيبة
ولعلَّ هذه المهابة الخاصة تعود إلى أمرين؛ أما الأمر الأول فهو حالة الضياع الشديدة التي كانت تعاني منها الأرض بكاملها، وأما الأمر الثاني فهو عموم هذه الرسالة الجديدة، فرسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم لا تتقيَّد بزمان أو مكان، وهي باقية إلى يوم القيامة، وهي العامة لكلِّ البشر في شتى قارات الدنيا، وبكل عرقيات الناس؛ ولذلك فهذه اللحظة تهمُّ كل إنسان يعيش على الأرض في زمانه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تهمُّ كل إنسان سيعيش على هذه الأرض إلى يوم القيامة؛ ولذلك ينبغي أن نقف طويلاً أمام هذه اللحظة، ونتدبَّر فيها.
ما الوحي ببساطة؟
الوحي هو "رسالة" من الله خالق هذا الكون إلى البشر، هذه الرسالة فيها أوامر ونواهٍ.. فيها بشرى وإنذار.. فيها إخبار بما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون في الدنيا إلى يوم يبعث الله عز وجل الخلائق أجمعين.. فيها تعريف بمستقبل الدنيا إلى آخر لحظاتها..
الوحي هو هداية الناس بشكل عامٍّ في حياتهم بكاملها؛ فالناس في حيرة، وفي ضلال، فيأتي الوحي ليأخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم، وإلى النور المبين؛ يقول ربنا تعالى في كتابه الكريم: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]. ويقول تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
الوحي نعمة من الله للإنسان
ينبغي أن ننظر إلى الوحي بهذه الرؤية، وينبغي أن ننظر بهذه الرؤية -أيضًا- إلى حياته صلى الله عليه وسلم، فلم تكن هذه الحياة إلا وسيلة من وسائل توصيل ما أراده الله عز وجل من عباده؛ لذلك اختزل سبحانه تعريفه صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة: "رسول". فقال تعالى واصفًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144]، هكذا.
ولهذا فالإنسان الذي يجتهد لكي يجد الحجة لنفسه وللناس كي يتحرَّرُوا من توجيهات الوحي هو في الحقيقة إنسان أحمق؛ لأنه لا يضرُّ إلا نفسه في المقام الأول، ثم يضرُّ أهله وقومه بعد ذلك، وهو إنسان رافض للمنَّة التي مَنَّ الله عز وجل بها عليه؛ قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. فواقع الأمر أن الوحي مِنَّة من الله عز وجل لإنسان عاش –كما وصف القرآن الكريم– في ضلال مبين، فجاء الوحي وأرشد هذا الإنسان إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة.
ومن هنا فإنَّ مَنْ يُفَرِّط في هذه النعمة هو في الحقيقة إنسان فاقد لعقله؛ فقد كان من المفترض أن يهديه هذا العقل إلى ما ينفعه، وكان من المفترض أن يُدرك به الحقائق، ويقرأ الأحداث، فإذا بهذا العقل يدفعه إلى هلكته؛ فصار بذلك أقلَّ من الحيوانات؛ لأن عقول الحيوانات -وإن كانت بسيطة بالمقارنة بالإنسان- لا تدفع الحيوان أبدًا إلى هلكته، إلا دون قصد أو إدراك؛ لذلك قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
فهؤلاء الغافلون الذين لم يستخدموا قلوبهم ولا أعينهم ولا آذانهم في مهمَّتها الرئيسية؛ وهي مهمَّة التدبُّر في الوحي، وفَهْم ما أراده الله عز وجل من الإنسان، وإدراك أننا إليه سبحانه راجعون، وإدراك أننا سنقف بين يديه فنُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، وفَهْم أننا في هذه الدنيا تائهون، وليس لنا دليل إلا الشريعة، أولئك الذين لم يفهموا كل هذه الأمور هم في الحقيقة كالأنعام؛ ثم يقول ربنا عز وجل: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]؛ لأن الأنعام تؤدي وظيفتها بحسب عقولها وإمكانياتها، ولكن الإنسان أعطاه الله عز وجل عقلاً أعظم، وكرَّمه وعظَّمه وقدَّمه، ومع ذلك يتصرَّف كالحيوانات، أو أقل منها.. هذه هي الطائفة التي لا تهتمُّ بالوحي، ولا تصرف من وقتها شيئًا لتدرسه وتعرف ماذا أراد الله عز وجل منها، ولا لتعرف طريق الهداية في هذه الصحراء القاحلة التي يعيش فيها الإنسان.
الوحي إذن ليس تكاليف مرهقة يطلبها الله عز وجل من الإنسان؛ إنما هو في الحقيقة نصائح له ترشده إلى طريق السعادة، والإنسان في النهاية حرٌّ في اختياره، يقول تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. ويقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. هذه هي حقيقة الوحي.
الوحي تكريم للإنسان
وواقع الأمر أننا ينبغي أن ننظر إلى الوحي كذلك على أنه أعظم لحظات تكريم الله عز وجل للإنسان، فالله عز وجل قد كرمنا بوسائل شتى لا حصر لها؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
لكن تبقى النعمة الأجلُّ، التي رفعت قدرنا وسط الخلائق، هي نعمة الوحي، أو نعمة الهداية؛ لذلك ذكر الله عز وجل في سورة النحل مئات النعم، التي أنعم بها على الإنسان من نعم الرزق، والمطر، والنباتات، والحيوانات، والأزواج، والظلِّ، وغيرها من أنواع النعم المختلفة، ويمكن أن تُراجع السورة؛ وهي سورة طويلة نسبيًّا، ومع ذلك فإن الله عز وجل قدَّم لكل هذه النعم بأجلِّها مطلقًا، وأعظمها قاطبة؛ وهي نعمة "الوحي".
ولنراجع بدايات سورة النحل؛ لكي نُدرك مدى قيمته عند الله عز وجل.. قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 1-6].
لقد ذكر الله عز وجل في هذه المجموعة من الآيات عدَّة نِعَم، وستستمر الآيات بعد ذلك في سرد نِعَم أخرى كثيرة؛ لكنَّه بدأ بالنعمة العظمى وهي نعمة نزول الوحي؛ فقال: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. هذا هو الوحي الذي جاء من السماء يُعرِّف الناس بربِّهم عز وجل، ويُعرِّف الناس في الوقت ذاته بواجبهم ناحية هذا الإله العظيم، الذي خلقهم، ومَنَّ عليهم بكل هذه المنن الكبرى، فكانت لحظة الوحي بذلك لحظة تكريم كبيرة للإنسان، وفيها من التعظيم ما فيها.
ولكي تعرف قيمة الوحي لا بُدَّ أن تنظر إلى حجم الإنسان بالنسبة إلى الكون، فالإنسان -في الحقيقة- ما هو إلا مخلوق صغير يعيش على الكرة الأرضية؛ والأرض بذاتها كرة صغيرة للغاية مُعلَّقة في الفضاء في المجموعة الشمسية، التي بدورها مجموعة صغيرة كذلك تدور في مجرَّة درب اللبانة، التي بدورها كذلك مجرَّة صغيرة مُعلَّقة بين مجرات هائلة في الكون! إن الإنسان حقيقةً لا يُمثِّل شيئًا في هذا الخلق العظيم، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
ومع ذلك قَدَّر الله عز وجل أمر هذا الإنسان، وأرسل إليه الملائكة بالوحي والإرشاد والهداية؛ بل أكثر من ذلك أسجد له الملائكة العظام تكريمًا له، وتعظيمًا لخلقه، ومِنَّة منه سبحانه عليه، ويكفي أن تنظر إلى حديث من الأحاديث التي تصف هذه الملائكة العظيمة، التي أسجدها الله عز وجل لأبينا آدم عليه السلام؛ حتى تُدرك قيمتك أيها الإنسان في هذا الكون؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ".
والواقع أنني أقف مشدوهًا أمام هذا الحديث؛ لرؤية هذه العظمة التي عليها هذا الملك، وهذه المساحات الضخمة التي يشغلها في الكون، التي قد تزيد على حجم مجموعاتنا الشمسية عشرات المرَّات، وهذا ملك واحد؛ بينما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا للهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ" .
في هذا الحديث اطَّلعنا على كمِّ الملائكة التي تشغل هذا الكون، وينبغي بعد أن رأينا عظمة هذا العدد، وعظمة هذا التكوين، أن ننظر إلى قيمة الإنسان ومكانته من الله عز وجل؛ وذلك عندما أسجد ملائكته الكرام لهذا الخلق الجديد، وهذا -والله!- تكريم ما بعده تكريم؛ لكن يجب لنا أن نُدرك أن هذا التكريم مشروط بتقدير الإنسان للوحي ولعظمته؛ لأن إبليس الذي أبى أن يسجد لهذا الإنسان، وتكبَّر على أمر واحد من أوامر الله عز وجل، طرده الله عز وجل من رحمته إلى يوم الدين، وحُقَّ له العذاب الدائم في جهنم، وكذلك الإنسان الذي يأبى أن يسمع كلام الله عز وجل، ويرفض أن يتَّبع شريعته، ويُشرك به شيئًا، هذا الإنسان يكون مصيره كمصير إبليس، وتكون العاقبة هي جهنم، وبئس المصير.
اتباع الوحي نجاة
إنَّ البشرية -في الواقع- تعيش حياة الضنك والهمِّ والغمِّ، ونجاتها لن تكون إلا في الوحي واتِّباعه؛ يقول ربنا عز وجل في كتابه الكريم: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123-126].
هذه الآيات تُلَخِّص لنا بوضوح قصة الوحي في الأرض، وجزاء مَنْ يتبعه، وفي الوقت نفسه توضح عاقبة مَنْ يُعرض عنه، فالذي يتَّبع الوحي يعيش في الهدى والنور في الدنيا والآخرة، والذي يُعرض عنه يعيش حياة الضنك في الدنيا، ويُحشر يوم القيامة أعمى؛ ذلك أنه نسي هذه اللحظة المجيدة، التي سعد بها الإنسان؛ وهي لحظة نزول الوحي إلى الأرض.
ولعلَّنا نلاحظ كلمة الضلال مع مَنْ يرفض الوحي، فهو في الواقع "ضلَّ" الطريق؛ فهو تائه حيران، والوحي يأخذ بيده إلى الطريق المستقيم؛ لذلك في سورة الفاتحة -التي نقرؤها في كل ركعة من صلواتنا- ندعو ونقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]. فنحن في بداية الدعاء نسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى الطريق المستقيم، وفي آخره نعوذ به أن نكون من الضالين.
ووصف ربنا عز وجل في سورة الأنعام هذه الحيرةَ التي يُعاني منها أولئك الذين ابتعدوا عن الوحي؛ فقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: 71].
فهذه الحيرةُ وهذا الضلال لا مخرج منه إلا باتباع الوحي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.