وزير التعليم العالي يؤكد أهمية تنوع الأنشطة الطلابية لذوي الإعاقة بالجامعات    محافظة الدقهلية تواصل فعاليات دمج أطفال دور الرعاية بالمجتمع (صور)    أسعار البيض اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    قمة مصرية روسية اليوم بموسكو لتعزيز العلاقات في مختلف المجالات    لأول مرة.. بابا الفاتيكان أمريكيا| وترامب يعلق    خلافات عميقة وتهميش متبادل.. العلاقة بين ترامب ونتنياهو إلى أين؟    ريال مدريد يستعد لإعلان تنصيب ألونسو خلفًا ل أنشيلوتي    إحباط محاولة غسل 50 مليون جنيه من تهريب المخدرات وضبط عنصرين أجنبيين بمدينة نصر    5 حالات اختناق بمنزل وحادث اعتداء على سوداني بالجيزة    ضبط عناصر إجرامية بحوزتهم مخدرات بقيمة 3.5 مليون جنيه    عرض فيلم "Only the River Flows " بمكتبة مصر الجديدة العامة    بوتين: روسيا ستبقى قوة عالمية غير قابلة للهزيمة    وفد «محلية النواب» يتفقد الخدمات الصحية لمستشفى الناس بشبرا الخيمة (صور)    احتفالات روسيا بالذكرى ال 80 للنصر العظيم..حقائق وأرقام    مصلحة الضرائب: 1.5 مليار وثيقة إلكترونية على منظومة الفاتورة الإلكترونية حتى الآن    فاركو يواجه بتروجت لتحسين الوضع في الدوري    ماركا: تشابي ألونسو سيكون المدرب الجديد لريال مدريد    إنفانتينو يستعد لزيارة السعودية خلال جولة ترامب    وزير الري: سرعة اتخاذ قرارات طلبات تراخيص الشواطئ تيسيرا ودعما للمستثمرين    وزير الإسكان: بدء تنفيذ مشروع «ديارنا» السكني بمدينة القاهرة الجديدة    جدول امتحانات خامسة ابتدائي الترم الثاني 2025 بالقليوبية «المواد المضافة للمجموع»    بسبب الأقراص المنشطة.. أولى جلسات محاكمة عاطلين أمام محكمة القاهرة| غدا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني للطلبة المصريين في الخارج غدا    الموافقة على الإعلان عن التعاقد لشغل عدة وظائف بجامعة أسيوط الأهلية (تفاصيل)    وزير المالية: الاقتصاد المصري يتحرك بخطى جيدة ويوفر فرصًا استثمارية كبيرة    مروان موسى ل«أجمد 7» ألبومى الجديد 23 أغنية..ويعبر عن حياتي بعد فقدان والدتي    حفيدة الشيخ محمد رفعت: جدى كان شخص زاهد يميل للبسطاء ومحب للقرآن الكريم    الجيش الأوكراني: تصدينا خلال ال24 ساعة الماضية لهجمات روسية بمسيرات وصواريخ    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري.. اليوم الجمعة 9 مايو 2025    أحمد داش: الجيل الجديد بياخد فرص حقيقية.. وده تطور طبيعي في الفن    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحاب سورة إبراهيم.. معنى الكفر
نشر في الشعب يوم 15 - 08 - 2011

ومعنى الكفر هو السَّتْر والتَّغْطية، إنهم غَطَّوا على الحقيقة، طمسوا على الحقيقة باتِّباع أهوائهم، لم ينظروا إلى النُّور، ولكنهم غَشَّوا أعينهم فلم يروا هذا النور، الكفر هو التغطية، حتى كلمة (كَفَر) في اللغات الإنجليزية وغيرها تفيد معنى التغطية، يغطُّون ويسترون الحقيقة ولا يرونها وهي واضحة أمامهم: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
مقابلة الكفر بالشكر:
الكفر أحيانًا يقابل بالشكر، وأحيانًا يقابل بالإيمان، فالكافرون هنا يعني: هم الذين كفروا النِّعمة ولم يشكروا نِعْمَةَ الله، أو الذين كفروا بالمُنْعِم عزَّ وجل.
فالكفر في القرآن يأتي على وجهين: أحيانًا الكفر يقابل الشكر كما في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان: 3].
وكما في سورة إبراهيم نفسها بعد آيات قليلة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. فقابل بين الشُّكر والكفر.
مقابلة الكفر بالإيمان:
وأحيانًا يقابل بين الإيمان والكفر، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}[البقرة:253]. وكما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}[التغابن:2].
دلالة كلمة الكفر عند الإطْلاق:
فالكافرون هنا: هل هم الكافرون بنعمة القرآن وإنزال القرآن؟ أم الكافرون بالمُنْعِم، بالله عزَّ وجل؟
الظاهر أنَّ كلمة الكافرين إذا أُطلقت في القرآن تعني الكفر المقابل للإيمان، هذا هو الأظهر، فهؤلاء كفروا كفرًا لأنهم لم يؤمنوا بالله، ولم يؤمنوا بكتابه، ولم يؤمنوا برسوله، فحُقَّ عليهم العذاب.
العذاب الشديد للكفار في الآخرة:
{وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الويل – كما سبق - عذاب وهلاك، وَيْلٌ لهم من عذاب شديد، فإنَّ لهم عند الله عزَّ وجل عذابًا شديدًا يوم القيامة، فقد لا يُعذَّبون في الدنيا، فكثيرٌ من الكافرين ينجون من عذاب الدنيا، يُمهلهم الله إلى الآخرة، فمن شأن الله تعالى أن يُمْهل ولا يُهْمل، كما قال جلَّ وعلا: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[الأعراف: 182-183]. قد يؤخِّرهم إلى الآخرة. كما قال تعالى في هذه السورة: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم: 42].
العذاب الحسِّي والمعنوي:
فالعذابُ المقصودُ هنا هو عذابُ الآخرة، وهو أخْزَى وأشد وأنكى من عذاب الدنيا بمرَّات ومرَّات، فالعذاب في الآخرة هو عذاب النار التي أعدَّها الله، ومعه عذاب الخزي والهوان كما قال سبحانه:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وهذا نوعٌ من العذاب المعنوي بجوار العذاب الحسِّي.
اختلاف وَصْف عذاب النار في القرآن:
عذاب النار عذابٌ شديدٌ، وعذابٌ غليظٌ، وعذابٌ أليمٌ، حسب تعبيرات القرآن وَفْقَ المقامات المختلِفة، هنا قال: {عَذَابٍ شَدِيدٍ}(1) وأيُّ: عذاب أشدّ من عذاب النار؟ وليست أيِّ نار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد"(2) إننا لا نتحَّمل لسعة من هذه النار كما قال الشاعر:
جسمي على الشمس ليس يَقْوى ولا على أهْون الحَرارة
فكيف يَقْوى على جحيم وَقَودُهَا النَّاسُ والحجارة
جاء في الحديث الصحيح، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " يُؤْتَى بأنْعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة - الذي عاش في النعيم والرفاهيَّة والطيِّبات، وما لذَّ وطاب من الطعام والشراب والنِّساء والخدم والحشم.- فيُصْبغ في النار صَبغة - يغمس في النار غمسة واحدة- ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب . غمسةٌ واحدةٌ تُنَسيه كلَّ ملذَّات الدنيا، كل ما أصابه من شهوات، كل ما جمعه من أموال، كل ما بناه من قصور، بغمسة واحدة في النار ينسى كلَّ لذائذ الدنيا وطِّيباتها.
أسباب الضلال
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ}(4)
استحبابُ الحياةِ الدنيا على الآخرة:
من هم هؤلاء الكافرون (5)؟ {الَّذِينَ (6) يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ما الذي جعل هؤلاء الكافرين يَعْمَوْنَ عن النُّور وهو واضحٌ أمامهم، عن الحقِّ وأدلته، وهي كالشَّمس في رابعة النهار؟! ما الذي جعلهم يسيرونَ وراء الطاغوت ويكفرون بالله ويكفرون برسالاته؟! سرُّ هذا أنهم اسْتحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة، كانت الدنيا أكبرَ همِّهم، ومَبْلغَ علمهم، فاستحبُّوها على الآخرة، جَعَلوا حُبَّها فوق حُبِّ الآخرة، آثروا الدنيا على الآخرة، وهذه هي مشكلة البشر إيثار الأُولى على الآخرة: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى* يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:34، 39]، {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ}[القيامة:21،20].
ما موقف الناس في هذه الحالة؟ هما موقفان وهما صنفان لا ثالث لهما: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 34-41].
المعضلة هي إيثارُ الدنيا على الآخرة، الذين اسْتَحبُّوا الحياة الدنيا على الآخرة، كانت الدنيا فوق كلِّ شيء عندهم.
سبب جحود هِرَقْل لرسالة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
من قرأ صحيح البخاري وجد في أحاديثه الأولى - بعد حديث: (إنما الأعمال بالنيات) - حديث هِرَقل الذي وَصَلته رسالة النبي يدعوه فيها إلى الإسلام قائلاً له: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تَسْلَم يُؤْتك الله أجرك مرتين، فإن تولَّيت فإنَّ عليك إثم الأريسيين. -ودعاه إلى آية في سورة آل عمران -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" [آل عمران: 64](7) .
كان هِرَقل رجلاً عاقلاً، أحبَّ أن يستوثق من صدق الرسالة التي بُعث بها إليه محمد ، وقال: هاتوا لي ناسًا من العرب، فجاءوا له بأبي سفيان، وكان في رحلة تجارية في ذلك الوقت. جاءوا به، فظلَّ يسأله عن النبيِّ أسئلةً في غاية الدقة، وأبو سفيان يجيب، ويخشى أن يكذب فَيُؤْثر عنه الكذب.
فقال هرقل: هذا هو النبيُّ الذي بشَّرنا به المسيح، ولو خَلَصْتُ إليه لغسلت عن قدميه، ثم عَرَضَ الأمر على رجال الدين القسس والرهبان، فهاجوا عليه، فقال لهم: أنا أردت أن أختبر حفظكم على دينكم، وبعد أن اقتنع أنَّ محمدًا رسول الله غلَّب الدنيا، غلَّب حُبَّ مُلْكِهِ على الدخول في الإسلام، وبقي يحارب الإسلام، ثم هزمه الإسلام بعد ذلك، والحمد لله.
موانع الإيمان واتِّباع الحق:
الذين حاربوا رسول الله من مشركي قريش، كانوا يعلمون أنه على حقّ، ولكنه الكِبْر من ناحية، والحَسَد من ناحية، والتقليد الأعمى لآبائهم من ناحية أخرى.
اليهود الذين وقفوا ضدَّ رسول الله كان الحَسد وحُبُّ الدنيا وراء ذلك؛ قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }[البقرة:109].
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }(8)
الصَّدُّ عن سبيل الله عزَّ وجل:
لم يكتفوا بأن يكفروا في أنفسهم، بل ظلُّوا يصُدُّون غيرهم عن سبيل الله، صدٌّ عن سبيل الله بمعنى: منع الناس عن الدخول في دين الله، صَرْف الناس عن الدخول في الإسلام؛ كالذي يقف في الطريق يمنع الناس من السير فيه، كقطَّاع الطريق الذين يقفون يمنعون الناس إلا إذا دفعت لهم إتاوة أو ما عندك أو غير ذلك، فهذا صدٌّ عن سبيل الله.
كما قال سيدنا شعيب : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً }[الأعراف:86]. وكما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}[آل عمران:99]. هؤلاء يَصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
يقول بعض المُفسِّرين: يَصُدُّون أنفسهم ويَصُدُّون غيرَهم. ولكن يَصُدُّون أنفسهم يكفي أنهم كفروا، إنما المعنى هنا يصدُّون عن سبيل الله.
فِعْلُ صَدَّ: يأتي في اللغة لازمًا أو قاصرًا ومتعديًا، صدَّ بمعنى أعرض، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}[النساء:61]. فهذا صَدٌّ قاصرٌ لازمٌ، وصدَّ أي: أعرض.
هناك صدٌّ بمعنى منع الغير، يعني يريد منع الناس من الدخول في الإسلام، وإذا دخلوا في دين الله يفتنهم ويؤذيهم ويعذِّبهم، كما فعل مشركو مكة بالمستضعفين، عذَّبوا عمَّار بن ياسر وأباه ياسرًا وأمه سميَّة، ومات أبوه ياسر وأمه سميَّة تحت العذاب، عذَّبوا بلالاً وغيره من المسلمين، فهؤلاء المشركون يصدون عن سبيل الله.
سبيل الله عز َّوجل:
سبيلُ الله هو الطريق المُوصل إلى الله، أي: إلى رضوان الله، إلى مثوبة الله، إلى جنَّة الله، ثم سبيل الله لأنَّ الله هو غايته، إنه يوصل إلى الله وإلى رضوان الله، ولأنَّ الله هو الذي شرع هذا السبيل، وهو الذي دعا إليه، وهو الذي هدى إليه، ولذلك نُسِبَ إليه، فسبيلُ الله هو صِراطُ الله كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:52 - 53].
هؤلاء يصدُّون عن سبيل الله، عن الطريق الموصلة إلى الله، وقفوا قطَّاعًا للطريق، يصدُّون عن سبيل الله.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}(9)
ابتغاء العوج لسبيل الله سبحانه:
يريدونها سبيلاً عوجاء غير مستقيمة، والله جعل هذه السبيل سبيلاً مستقيمًا لا عوج فيها ولا أمْتًا، لا تميل إلى اليمين ولا إلى الشمال.
الصِّراط المستقيم هو أقرب طريق إلى الهدف، الله جلَّ وعلا يريدها مستقيمة وهم يريدونها عِوَجًا.
قال: {وَيَبْغُونَهَا}، لأنَّ السبيل تُذكَّر وتؤنَّث، فأحيانًا تذكَّر كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]. وأحيانًا تؤنَّث كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } [يوسف:108]. فهؤلاء يريدون هذه السبيل عوجاء (10).
{أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}(11)
الضلال البعيد:
هؤلاء الكافرون المستحبُّون للدنيا على الآخرة، الصَّادُّون عن سبيل الله الذين يريدونها سبيلاً عوجاء {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}. كأنَّ هناك ضلالاً قريبًا وضلالاً بعيدًا.
ما معنى الضلال؟ الضلال هو: الغياب والذهاب عن الحقِّ والصواب، ضلَّ أي: ذهب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[السجدة:10]. أي: أإذا غبنا في الأرض وأصبحنا عظامًا ورُفاتًا واختلطنا بالتراب وانتهى الأمر؛ أإنا لمبعوثون؟!
الضلال الدنيويّ والدينيّ:
هنالك ضلال دنيويّ وضلال دينيّ.
فالضلال الدنيويّ: في أمور الدنيا كما قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30].
أي: أساءت التَّصرُّف، تترك العزيز، وتحب الخادم الذي يخدمها ويعمل عندها!
ومثل ذلك ما قال أبناء يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:8]؛ لأنه أحبَّ أخوينا الصغيرَيْن ونحن عُصْبة: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، ولما قال لهم: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] قالوا له: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]. فهذا ضلالٌ دنيويٌ.
لو أرادوا الضلال الديني لكفروا، كيف يصفون أباهم وهو نبيُّ ابن نبيّ ابن نبي، الكريم بن الكريم أنه في ضلال ديني؟! لا.. فمعنى الضلال هنا: {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} أي: إنَّ رأيك غير سليم.
وهناك الضلال الدينيّ: والقرآن حين يذكر كلمة ضلال يراد به في الأكثر الضلال الدينيّ، الضلال عن الحق وعن الهدى، فهؤلاء:{فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، ضلال ظاهر،لأنَّ الحق ظاهر أمامهم وضلُّوا عنه، وضلُّوا عن الطريق عن الاتجاه.
إذا كان الضلال عن الاتِّجاه الأساسي، فالإنسان كلما مشى في الطريق كلما أوْغَلَ في البُعد. الطريق شرق وهو يذهب إلى الغرب، كلما مشى كيلو متر بَعُد عن الهدف، وكلَّما مشى عشرة كيلو متر صار أبعد عن الهدف، كلما مشى يزداد بُعدًا، هذا هو الضلال البعيد، الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً}[النساء:116]. ويقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}[النساء:136].
ضلال الكفار البعيد:
فضلال هؤلاء الكفَّار الذين لم يهتدوا بهُدى الله، ولم يهتدوا بالكتاب المُنزل، ولم يُخْرجهم من الظلمات إلى النُّور، ولم يهتدوا إلى صراط العزيز الحميد، واستحبُّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وَصَدُّوا عن سبيل الله، وبَغَوْها عِوَجًا؛ هؤلاء في ضلالٍ بعيد، لا يُرْجى لهم منه عودة إلا أنْ يأذن اللهُ عزَّ وجل ويهديَهُم إلى صراطه المستقيم.
--------------------------
(1) العذاب: التعذيب عقوبة وتنكيلاً. والشديد: القوي الذي لا مثيل له من ثقله وأثره، صفة مشبهة تفيد المبالغة.
(2) رواه أحمد (7327) وقال مخرجوه : صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في صفة جهنم (2589) وقال : حسن صحيح، والبيهقي في شعب الإيمان كتاب الإيمان(143) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب (3666)، عن أبي هريرة.
(3) رواه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار(7266)، وأحمد (13112) عن أنس بن مالك.
(4) أيك يحبون الحياة الدنيا حبًا شديدًا ويؤثرونها علىالآخرة. (يستحبون) يعني فعل (يؤثرون) فقُدِّي تعديته بحرف (على).
(5) بيّنت الآيات أن أسباب وقوع الكافرين في العذاب الشديد نابعة من داخل نفوسهم! وهي نتيجة كسبهم واختيارهم، ولاتصافهم بثلاث صفات: الصفة الأولى: أنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. الصفة الثانية: أنهم يصدّون عن سبيل الله. والصفة الثالثة: أنهم يبغون أن تكون وسيلتهم في الحياة وسبل غيرهم سبلاً عوجاء غير مستقيمة على الحق والخير والهدى.
(6) أي: الاسم الموصول (الذين) في محل جر صفة ل (الكافرين).
(7) متفق عليه: رواه البخاري في بدء الوحي(7)، ومسلم في الجهاد والسير (4707)، كما رواه أحمد في المسند (2370)، و الترمذي في الاستئذان (2717)، والنسائي في الكبرى كتاب التفسير(11064)، عن ابن عباس.
(8) يصدُّ: يمنع ويرد. والسبيل: الطريق الواضحة.
(9) يبغي: يطلب ويريد، أي: يريدونها عوجاء منحرفة عن الحق، لتوافق شهواتهم ومنافعهم. والعوج: مصدر فعل (عَوِجَ، يَعْوَج، عِوَجًا) أي: مال وانحرف عن الحق والخير والهدى. والعِوَج – بكسر العين – عدم الاستقامة في الأشياء المعنوية: الفكرية والقولية والنفسية والسلوكية. أما العَوَج – بفتح العين – فهو الميل والانعطاف في الأشياء التي تدرك بالحواس، وهو أيضًا مصدر: (عَوِج، يَعْوَج، عَوَجًا)، فيقال: في القضيب عَوَج، وفي الطريق عَوَج.
(10) من أسباب ضلال الكفار: أنهم يطلبون أن يروا في دعوة الله تعالى ما يكون عوجًا قادحًا فيها، أو: ويصفون الله تعالى وشريعته بالاعوجاج بواسطة الافتراء والكذب، كما يفعل ملاحدة هذا العصر من دعاة الإلحاد والعلمانية، فهم يصفون الشريعة الإسلامية بالقصور والجمود، والعجز عن تلبية الحاجات التشريعية للعصر الحاضر، وهي في الحقيقة مستقيمة وقوية وغنية، تلبِّي حاجات الناس في كل عصر ومصر، وصدق الله العظيم القائل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[هود: 18، 19] ويمكن أن يكون المعنى: ويريدون من أهلها أن ينحرفوا عنها، بهجرها والإعراض عن أحكامها.
(11) أولائك، أي: أولائك البعداء عن تنزلات الرحمة، المنحطون في الدركات في ضلال بعيد. والضلال: الخطأ والضياع والانحراف. والبعيد: المتناهي في الانحراف، صفة مشبَّهة تفيد المبالغة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.