لن يكون معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته ال47 بمعزل عن أسئلة تتردد دوما في أي معرض للكتاب سواء في الغرب أو في الشرق عن "الناشرين الرابحين والخاسرين في المعرض" وعن "الكتب التي باعت وتلك التي بقت على الأرفف" ناهيك عن "تأثير الكتاب الرقمي على الكتاب المطبوع" كما أن الحدث الكبير قد يستدعي بالتداعي ذكريات في عالم النشر . ويشكل الناشرون جزءا حيويا في البنية الأساسية للثقافة حتى يحق وصفهم "بملح الأرض الثقافية" وتلمح العين كتبا تصدر من حين لآخر في الغرب عن هذا العالم وسياسات النشر فيما يحق التساؤل:"هل هناك سياسات للنشر في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير-30يونيو بمصر سواء على مستوى دور النشر العامة أو الخاصة؟!. ومن الطبيعي أن يتنافس الناشرون الذين يصل عددهم إلى 850 ناشرا في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يعد ثاني أكبر وأهم معرض للكتاب في العالم بعد معرض فرانكفورت الدولي ومن بينهم 550 ناشرا مصريا إلى جانب 250 ناشرا عربيا و50 ناشرا أجنبيا. غير أن حدة المنافسة بين الناشرين لن تحول دون الاحتفال بمعرض القاهرة الدولي للكتاب كعرس ثقافي وعيد للكتاب مثل الاحتفالية التي اقامتها "دار الشروق" مساء أمس الأول "الأثنين" وتقدمها إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة مجموعة الشروق وحضرها عادل المصري رئيس اتحاد الناشرين المصريين ومحمد رشاد الذي انتخب الأحد الماضي على هامش معرض القاهرة الحالي للكتاب كرئيس لاتحاد الناشرين العرب. وإذ أمسكت دار الشروق للنشر والتوزيع بزمام المبادرة في حفلات الاستقبال بمناسبة معرض القاهرة الدولي للكتاب وهو الحدث الثقافي المصري الأكثر أهمية على مدار العام فالأمل أن يأتي يوم قريب تكون فيه احتفاليات توقيع الكتب في مصر كما هو الحال في الغرب أو "الشمال المتقدم" حيث تعد هذه الاحتفاليات من محركات الحياة الثقافية وتحرك الساكن في الساحة بمناقشات وبرامج وطروحات في الصحف ومحطات الإذاعة وقنوات التلفزيون. وإذ ينتهي الأسبوع الأول من معرض القاهرة الدولي للكتاب بدا أن الإقبال كبير غير أنه ينحسر أحيانا جراء الانخفاض الشديد في درجات الحرارة فيما من الطبيعي أن يتجه الجمهور للأجنحة ذات الإصدارات الجيدة والأسعار المعقولة. ولأن هذا المعرض هو الحدث الأهم في عالم الكتاب بمصر فمن الطبيعي ان يكشف عن اتجاهات النشر وميول القراء من خلال استقراء الكتب الأكثر مبيعا فيما قد يهتم الخبراء بالشباب والنشء على وجه الخصوص ومحاولة رصد الكتب المفضلة لدى هذه الفئة التي تشكل كثير من الحاضر وكل المستقبل. وأوضح مصطفى الفرماوي "مدير تزويد مكتبات الشروق" أن هناك إقبالا كبيرا على الأعمال التي تدخل تحت تصنيف "أدب الشباب" ، فضلا عن إصدارات تتعلق بنجوم الفن كليلى مراد وفاتن حمامة . وإذا كان بعض الشباب يفسر عزوفه عن الكتاب والقراءة إلى التغير السريع بما يتجاوز سكون الكتاب الورقي أو المطبوع إلى وسائط أخرى تحلق في الفضاء الإلكتروني فان دور النشر تعمد لإجراء خصومات كبيرة على أسعار الكتب المطبوعة في معرض القاهرة الدولي للكتاب. وعلى سبيل المثال فان دار الشروق أعلنت عن معدلات خصم كبير على إصداراتها من الكتب العربية بلغت في بعض الأحيان 50 بالمائة ، كما وصل معدل الخصم في بعض الإصدارات الأجنبية ل75 بالمائة أما الهيئة المصرية العامة للكتاب فتحرص على طرح الكثير من الإصدارات الهامة بأسعار مخفضة إلى جانب إصدارات أخرى بأسعار زهيدة لهيئة قصور الثقافة. فيما شهد معرض القاهرة الدولي للكتاب أمس الأول "الأثنين" "مائدة مستديرة"حول مستقبل النشر الرقمي وفرص التعاون بين مصر والصين في هذا المجال قال الناشر شريف بكر إن هناك محاولات لوضع خطط "لايجاد الطريق الصحيح للنشر الرقمي في مصر". وأوضح شريف بكر وهو عضو مجلس إدارة اتحاد الناشرين المصريين أن مشاريع النشر الرقمي في الدول العربية مازالت "فريدة" وهي غير مدعومة من الحكومات بينما رأت نوران المصري مديرة دار اطلس للنشر إن "النشر الرقمي هو المستقبل". اما الصينية دونج يوي الخبيرة في تسويق الكتاب الرقمي فاعتبرت أن "النشر الرقمي مؤثر في الصين" وان التطور التكنولوجي ساعد في تجويد المحتوى، لافتة إلى أنه يمكن لمصر الاستفادة من هذا التطور وتحقيق مكاسب في المستقبل. وان كانت هذه "المائدة المستديرة" لم تتناول بصورة مفصلة تأثيرات الكتاب الرقمي على الكتاب الورقي فان هناك طروحات في الصحافة الغربية تؤكد على التحديات الخطيرة التي يتعرض لها الكتاب الورقي من جانب الكتاب الإلكترونى. ومن هنا خرج ناشرو الكتب الورقية عن تقاليد سادت طويلا في صناعتهم وهم يحثون الخطى ويسرعون الإيقاع لإنقاذ صناعتهم المهددة بقوة من جانب الكتب الإلكترونية. فيما عرفت تقاليد صناعة النشر في أمريكا البدء في إصدار الكتب ذات الأغلفة السميكة والأعلى سعرا ثم بعد نحو عام يأتي دور الطبعات الشعبية ذات الأسعار الرخيصة بأغلفتها غير السميكة لهذه الكتب-قرر الناشرون الخروج عن هذا التقليد الراسخ والاتجاه بدلا من ذلك لإصدار الطبعات الشعبية بعد مدة لا تتجاوز ستة أشهر من إصدار الطبعات الراقية والغالية . وظهرت طبعات شعبية مبكرة بأسعار رخيصة لأعمال أدبية لها صيتها في الولاياتالمتحدة مثل قصة "زوجة النمر" لتيا أوبريهت التي أشاد بها العديد من النقاد لينعم القراء بهذه المنافسة المحتدمة بين الكتاب الورقي والإلكترونى. ولم يتردد الناشرون في الاستفادة من خبرات هوليوود السينمائية في التوصل لصيغة لتقليل الخسائر التي تتكبدها دور السينما جراء عرض الأفلام على المواقع الإلكترونية لشبكة الإنترنت أو بيعها بسرعة في نسخ إلكترونية كاشكالية شبيهة بإشكالية الخسائر التي تتعرض لها الكتب الورقية بسبب الكتب الإلكترونية. ويقول الناشر جان فون ميرين إن فكرة النشر المبكر للطبعات ذات الأغلفة اللينة أو غير السميكة بدأت تؤتى ثمارها في خضم منافسة لا تعرف الرحمة بين الكتب الورقية والكتب الإلكترونية معتبرا أن الأفكار الجديدة والمبتكرة هي السلاح الأكثر أهمية في هذه المنافسة الشرسة. أما الناشرة انى ميسيتى فترى أن الطبعات الشعبية للكتب تضمن لها حياة ثانية بقدر ما تحمى وجود الكتاب الورقي بين أوسع قاعدة ممكنة من القراء ، منوهة بأهمية عنصر التوقيت في إصدار هذه الطبعات ذات الأسعار الرخيصة ,وفى كل الأحوال يبدو أن القاريء هو الفائز في هذا الصراع الكبير بين الكتب الورقية والكتب الإلكترونية. وشهدت دورة هذا العام بمعرض القاهرة الدولي للكتاب اهتماما بمكافحة ظاهرة الكتب المزورة تجلى في قرارات فورية اتخذها الدكتور هيثم الحاج علي باغلاق مكتبات "بسور الأزبكية داخل المعرض" لتورطها في بيع كتب مزورة بعضها من الأعمال الهامة لكتاب كبار. وفي بلد مثل مصر ربما تستحق مكتبة مثل مكتبة "البابي الحلبي" معالجة روائية منذ أن أسس السوري أحمد الحلبي عام 1859 مطبعة باسم "الميمنية" قبالة الجامع الأزهر لتكون أول مطبعة ومكتبة خاصة تقام في مصر. لكن حلم أحمد الحلبي كان مهددا بالموت بعد رحيله لأنه لم ينجب ومن ثم فقد ارسل لأبناء اخوته في حي الباب بحلب للمجيء لمصر المحروسة والعمل معه في المطبعة والمكتبة وبالفعل جاء ثلاثة منهم هم "مصطفى وعيسى وبكري" وحصلوا على شهادات "العالمية" من الأزهر الشريف. وتقول قصة هذه المكتبة أن الأشقاء الثلاثة اختلفوا وقام عيسى بتأسيس مكتبة أخرى حملت اسم "دار إحياء الكتب العربية" في حي الحسين فيما قام مصطفى البابي الحلبي بتوسيع الدار الأصلية للنشر وتغيير اسمها الى "مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي". والمكتبة الواقعة في منطقة "سوق الخضار" بالأزهر لافتة رغم الزحام والضجيج خارجها بعناوين اصداراتها مثل :"قرة العيون لشرح نظر ابن ميمون في النكاح الشرعي وآدابه" و"الطوالع الحدسية للرجال والنساء لأبي معشر الفلكي فيما كانت منذ بداياتها تصدر طبعات من "ألف ليلة وليلة" مطبوعة بطريقة الجمع اليدوي للحروف. وتعتمد المكتبة حاليا على بيع الكتب لطلاب الأزهر الذين تلمحهم العين وهم ينقبون بين الأرفف بحثا عن كتب معينة بينما تخضع كتبها في الفقه والتفاسير لمراجعة بعض علماء الأزهر. وخلافا لواقع الحال في دور النشر الغربية لاتعرف دور النشر المصرية الآن على الأقل اسماء كبيرة لمبدعين في عالم الكلمة يعملون في هذا المجال وان كانت مكتبة نهضة مصر لآل السحار تبقى علامة توميء لاسم الأديب الراحل عبد الحميد جودة السحار. ومن الطريف أنه عندما قام الروائي المصري عبده جبير بتأسيس دار نشر في عام 1984 سرعان ما أفلست وأغلقت أبوابها بعد نشر مجلدين من مجلة "الأستاذ" لعبد الله النديم فيما تنزع مكتبة "الأنجلو" التي أسست في القاهرة منذ عام 1928 للتخصص في الكتب العلمية والعلوم الإنسانية المتخصصة بصورة تلبي متطلبات طلاب الجامعات. وللذكريات شأنها مع مكتبة منشأة المعارف بالإسكندرية ، حيث يحتفظ صاحبها ومؤسسها جلال حزي المنحدر من اجداد شوام بألبوم جمع فيه كلمات مشاهير الأدباء والساسة والمثقفين الذين زاروا مكتبته ومن بينهم عباس محمود العقاد والدكتور ثروت عكاشة وصلاح طاهر وثروت أباظة. وكذلك الحال في مكتبة النهضة المصرية بقلب القاهرة ، حيث الاحتماء بالماضي التليد والذكريات العزيزة التي تعود لأكثر من 80 عاما عندما افتتحها وزير الداخلية آنذاك في حفل حضره كبار رجال الدولة بينما تفخر المكتبة بأنها كانت أول موزع للصحف والمجلات الأجنبية في مصر وأول من ادخل الكتب والمجلات الأمريكية للبلاد. كما تفخر المكتبة بأسماء مؤلفي إصداراتها من وزن وقامة عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن بدوي وأحمد أمين ومحمود تيمور ويوسف السباعي فيما يستعيد الجيل الجديد الذي يدير مكتبة النهضة المصرية كلمة مؤسس الدار وعميدها حسن محمد السيد :"المؤلف يقدم عصارة فكره في الكتاب والطابع يقدم خلاصة فنه والناشر عليه أن يقدم للكتاب روحه". فيما يحفل كتاب رسائل كالفينو بالعديد من الطرائف والذكريات في عالم النشر مع كبار الكتاب فان جلال حزي يستعيد بفخر أن الكاتب العملاق عباس محمود العقاد عندما أراد كتابة كتاب بعنوان :"الله" طلب منه كل المراجع المفيدة له في هذا العمل الكبير كما يؤكد أهمية دور مكتبته للباحثين في مجال القانون. ومن المثير للتأمل أن مصر عرفت ظاهرة دور النشر التي تقام لفترة مؤقتة ولهدف محدد مثل "دار الكرنك" التي أقيمت في أواخر خمسينيات القرن العشرين أثناء أزمة سياسية حادة بين نظام الرئيس جمال عبد الناصر والاتحاد السوفييتي حينئذ واقترنت بحملة اعتقالات واسعة النطاق للشيوعيين المصريين فيما تخصصت هذه الدار في نشر الكتب المعادية للشيوعية حتى اختفت فجأة مع المد الكبير في العلاقات الودية بين مصر الناصرية وموسكو خروشوف وبريجنيف. ومن الطريف أن مسألة شراء البعض للكتب من قبيل المباهاة أو التظاهر بالاهتمامات الثقافية دون قراءتها حاضرة في بريطانيا شأنها شأن مصر كما كشفت صحيفة الجارديان ، حيث رصدت "ظاهرة شراء البعض للكتب كنوع من الزينة داخل المنازل"!. أما عند عاشق الكتاب والقاريء الأصيل فقد يصل الأمر لتصور أن الفردوس ذاته ليس سوى مكتبة هائلة تتجمع فيها كل أشكال الزهور والحدائق المعرفية كما قالها يوما ما أسطورة الأدب الأرجنتيني حورخي بورخيس الذي كان ينظر للعالم بوصفه كتابا كبيرا يحاول فك رموزه وألغازه بالقراءة !.