■ عازفة البيانو الرقيقة: سيريناد سليمان جميل، التى تعمل الآن فى وظيفة قنصل عام بسفارتنا فى باريس ، قالت لى إنها اختارت أن تكون شقتها هناك مطلة على نهر السين، حتى إذا أرخت الستائر فى الأمسيات الحزينة، تصورت أنها تحتضن بعينيها النيل. ولم تخبرنى بالطريقة التى تستطيع بها أن تقرأ قصائد الشجن المطبوعة على ملامح الوجوه الممعنة أحمد يونس فى القاهرية. أدركت بمفردى أن هذه الملامح مطبوعة من الداخل أيضاً، كنقوش المعابد القديمة، على جدران القلب. ●●● ■ إذا كان الإخوان قد تغلغلوا تحت الجلد فى أهم مفاصل الدولة أثناء حكم العياط. بما فى ذلك ماسبيرو ووزارات التعليم والصحة والثقافة والخارجية والشباب والرياضة والكهرباء والحكم المحلى، وهم مازالوا يمارسون إرهاب الزائدة الدودية حين تخون الجسد، فإلى من تشير أصابع الاتهام فى بقائهم حتى هذه اللحظة داخل تلك الشقوق؟ أعرف أن البعض لا يتورعون عن إلقاء المسئولية كلها إنشالله على النحاس باشا. ●●● ■ أبعد شىء عن ذهنى الآن هو أن أعكر مزاج أحد على الصبح. لكن، ما باليد حيلة. استبدال الدشداشة بالجلباب الريفى ليس معناه أن الشخص أصبح هكذا على غفلة عليماً بأسرار الأرض والماء والنبات. ليس معناه أن استيعاب المعارف أو الخبرات المتراكمة، على مدى آلاف السنين، يمكن أن يتم بمجرد تغيير الزى، ولا يترتب عليه بالتبعية الانتقال من العصر الرعوى إلى مجتمع الزراعة المستقر. كذلك فإن خلع الجلباب لارتداء عفريتة العامل الفنى لا يقفز بالواحد إلى عصر الصناعة أوتوماتيكياً. بالضبط كما أن الاستعاضة عن الملاية اللف بالبنطلون الجينز لا تصنع فى حد ذاتها استقلالية المرأة أو الحقوق الشخصية أو السياسية المسلوبة، ولا تجعلها تتمتع بالمساواة الكاملة مع الرجل. لا يكفى أن يلبس مأذون القرية حلة رائد الفضاء حتى يكون قادراً على التحليق خارج الغلاف الجوى. وعلى المقابل، فإن ارتداء ضابط المخابرات البريطانى الشهير الباعث على الريبة توماس إدوارد لورنس المتنكر فى هيئة عالم آثار، أثناء الحرب العالمية الأولى لزى البدوى لم يجعل منه بدوياً. كما أن أعظم بطلات فرقة البولشوى اللائى دفعهن البحث عن لقمة العيش بعد كل ما جرى فى بلادهن عندما تفكك الاتحاد السوفيتى إلى ممارسة الرقص الشرقى فى كباريهات شارع الهرم، حقاً قد شربن الصنعة على أصولها. لولا أن شيئاً ما ظل ينقصهن، أعتقد أنا أنه الروح التى لا يتعلمها الإنسان أكاديمياً. أسوق هذه الأمثلة لمواجهة ما لا يبدو أن هناك من يريد مواجهته. فلقد جرت فعلاً خلال الثمانين أو التسعين عاماً الماضية مجموعة من التغيرات التى تعطى الانطباع بأن الدنيا انقلب حالها فى مصر رأساً على عقب. لكن من يتأمل الواقع بالحد الأدنى من الجدية، يكتشف على الفور أن أخطر التغيرات، ولا أقول معظمها، اقتصر على المظهر الخارجى، وأن غطاء الرأس قد تعرض إلى عدد من التعديلات يفوق ما حدث داخل الرأس ذاته. فالمسافة من العمامة أو الطاقية التى اختص بها الفلاح أو ابن البلد إلى البيريه أو ما يماثله، بما فى ذلك المرحلة التاريخية الطويلة التى استغرقها التوقف عند الطربوش التركى، أكبر بلا شك من الشوط الذى قطعه الفكر داخل تجاويف الدماغ، حيث تعثرت لسبب ما لا بد من دراسته ملياً جميع محاولات التنوير. نظرة متأنية لكل ما يحدث تكفى ليستبد بنا الفزع. ■ أنا، أيضاً، أعمل بالتمثيل، عندما : أبتسم.