«الشعراوى» كاريزما فريدة فى زمن دعاة الفلوس والمصالح ■ سألته عن التيارات الإسلامية فقال لى: « دى سياسة ومصالح».. وكان يكره التشدد والتزمت ■ سألته عن البنوك وتحريم بعض المشايخ فى التعامل معها.. فقال: هذا جهل ■ رفض عروضاً خليجية بمبالغ ضخمة مقابل بيع تسجيلاته الصوتية.. وأهداها للتليفزيون المصرى مجانا ■ ياسمين الحصرى ومنى عبد الغنى أكثر الفنانين الذين ترددوا عليه.. وقال لمحمد وفيق: «أخبر الفنانين ألا يُفسدوا أعمالهم ب «الأحضان والبوس» أذهلني الإمام الشعراوى بسؤاله عندما رآنى لأول مرة: «أنا منتظرك من زمان؟ توقعتك تجينى قبل كده بس انت اتأخرت»، ولا عجب أن يصدرَ عن الإمام مثلُ هذا العجب، فقد سبقَ أن تبادلَ الرُّؤى بينَه وبين الشيخ بلقايد الجزائرى قبل ترؤسه بعثة الأزهر فى الجزائر، انعقد لسانى وتصببتُ عرقاً، فأنا فى أول أسبوع من طلب العلم فى مصر ولا أبلغ حينها نقطة فى بحر الشعراوى. لكن هذا البحر من العلم والنُّبوغ لم يكن يقيس الأمور بميزان « الفقهنة» ولا يتفاضل على أحدٍ بعلمه. وقبل أن أخبرك أيها القارئ كيف أذهلنى الإمام فى نفس اللحظة دعنى أقص عليك كيف سيّر الله الأقدار لتحقيق مراده سبحانه. كانت البداية من مدينة طرابلس شمال لبنان، حين فاجأتُ والدى قائلاً: أريد لقاء الإمام الشعراوى، فظن أنى أمازحه لأنّه تقدّمَ لى بوظيفة راقية بعد تخرجى بتخصص علوم الكمبيوتر من جامعة «البلمند» الإنجليزية الشهيرة بلبنان، كما تخرجت قبلها فى مدرسة مار الياس للآباء الكرمليين الفرنسية الخاصة، فأجابنى والدى: «هو الشيخ الشعراوى فاضيلك وبعدين أنت مين عشان يعطيك من وقته، ده وقته بيعطيه للأمة كلها». طلبت منه الجلوس، وأخبرته بأنى توكلت على الله ونويت تحقيق حلمى بالسفر إلى مصر لدراسة علوم القرآن والقراءات العشر بالأزهر الشريف ومجالسة العلماء المتخصصين بالعلوم الشرعية والتلقى عنهم، خصوصاً على يد أربعة من أعلام العالم الإسلامى، هم الإمام الشعراوى وقراءة القرآن بين يديه والتعلم منه، والعلامة المقرئ الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات أعلى القراء سَنَداً وأشهرهم فى العالم الإسلامى، والعلامة المقرئ الشيخ عبد الحكيم عبد اللطيف شيخ عموم المقارئ المصرية، والدكتور أحمد نعينع قارئ مصر الأشهر. كان طموحى فى قراءة القرآن ونَيْلِ الإجازة منهم. وأحمد الله الذى استجاب دعائى وحقق لى هذا الرجاء بفضله وكرمه، فأولانى هؤلاء البدور الأربعة عطفَ الوالدين فى مصرَ التى لم أشعر فيها بِغُربةٍ أبداً، حتى إنّ شيخى الدكتور أحمد نعينع الذى لازمته يومياً طيلة سنوات إقامتى فى مصر كان يُسأل دائماً:هل هذا ابنك؟ فيقول: نعم، فيزيدنى تشريفاً بكرمه وشهامته الدائمة حتى إنه شرّفنى أيضاً بالسفر إلى الإسماعيلية لحضور حفل زفافى، وكنت قد التقيت به أول مرة سنة 1995م حينما فزتُ فى المسابقة العالمية للقرآن الكريم فى مصر بين 125 دولة وتسلمت الجائزة من رئيس الجمهورية فى احتفال ليلة القدر. كانت مشيئة الكريم الرحمن أن يكون الدكتور أحمد نعينع سَبَبَ لقائى بالإمام الشعراوى فى الأسبوع الأول من قدومى إلى مصر سنة 1996م، حيث تحقق الحُلُم باللقاء، ودخلنا على مولانا الشعراوي فى استراحته فى السيدة نفيسة، وكان حوله الزوار والضيوف الذين يطلب منهم أقرباء الشيخ بالسلام عليه والانصراف كى لا يُثقلوا عليه. من هنا أدركتُ أن الجلوس مع الشيخ مستحيل إلا أن يشاء الله.. سلّمنا مباشرة على مولانا الشعراوى، وقال: «دخّلونى الغرفة، وتعال يا شيخ أحمد ومعاك الضيف، فدخلنا وحدنا غرفة الشعراوى الخاصة». جلس مولانا على السرير، وتبسم الشيخ الشعراوى ودعانى للجلوس بجانبه على السرير، وشبك يده بيدى، والتقطنا صورة، والتى طلب منها نسخة وأمر بوضعها أمامه فى غرفته الخاصة ولا تزال إلى يومنا هذا كما أخبرنى أحد المستشارين الذى زار عائلة الشيخ منذ فترة. كان لى الشرف العظيم أن يعاملنى الإمام الشعراوى كأحد أولاده عندما أرسل رسالةً بصوته- ما زلت أحتفظ بها- إلى خالتي ليخطب لى ابنتها، كما أرسل رسالة صوتية -محفوظة معى أيضاً- إلى والدى فى لبنان يدعوه إلى بيته فى السيدة نفيسة ليقوم الشعراوى بعقد القِرآن. كنتُ قد نظَمتُ قصيدةً -منَ البحر الطويل- بعد اللقاء الرُّوحى الأول بيننا بعد ظهر يوم الجمعة، وألقيتُها بين يديه، وهى مسجلة عندى أيضاً، فأرسل الإمام على الفور رسالةً إلى خالتى يخطب لى ابنتها، وهذه بعض أبيات القصيدة: فَلَمْ تَصْفُ رُوحِى لَمْ سِوَى بَعْدَ مَزْجِهَا بِرُوحِ الحَبيبِ الشَّعْراَوِيِّ المُبَجَّلِ وما أَيْقَظَ العِشْقَ الطَّهُورَ بجُمعَةٍ سوى مَزجَةِ الرُّوحَينِ بَعْدَ التَّدَلُّلِ أبَى أنْ يَبُوحَ القَلبُ إلاَّ لَكُمْ فَهَلْ تُغِيثُونَ قلْباً عَاشِقاً قَبْلَ مَقْتَلِ ومَا زَادَنِى فى العِشْقِ قَيْسٌ بِذَرَّةٍ ومَا فَاقَنِى فى الطُّهرِ بَرٌّ ولا وَلِى فأنتُمُ أبِى أنتُمْ وأمِّى بِعَطْفِها فَهَلَّا سَعَيْتُمْ بالوِصَالِ المُؤَمَّلِ أقول بكل ثقة إنّ الذى يلتقى بالإمام الشعراوى لا ينجذبُ لأحدٍ سواه ويصعبُ على سمعه وبصره وقلبه أن يتقبلوا طارقاً آخر، لأنّ الله قد وهَبَ الإمام وجْهاً أنوَراً مُؤثِّراً ما رأت عينى له مثيلاً إذا تحدث أو أنصت يأسرك بسحر تعابيره البهيّة. كما أكرمه الله ب«كاريزما» فريدة وصوتٍ عَذْبٍ حَنُونٍ فيه من المؤثرات الصوتية البديعة ما تعجز استوديوهاتُ العالم عن الإتيان بمثله ، فتباركَ اللهُ أحسن الخالقين. وقد يستغرب القارئ هذا الوصف المبهر للشعراوى، وإنى لَسْتُ له مُعَاتباً، لأنّ من رأى الجمال والجلال القرآنيََّ بعينه ليس كمن سمع عنه بأذنه. وأذكرُ أنه عندما عرض مسلسل عن حياة الإمام الشعراوى، سألنى أصحابي: هل حقاً كان الإمام بهذه الفضائل العظيمة؟ فأجبتهم بثقة العارف: ما رأيتم سوى عُشْرِ ما رأيتُ من بهاء ونبوغِ وعبقرية الشعراوى. كان شيخى الشعراوى يتفضَّلُ عليَّ بمجالستى فى غرفته الخاصة -فى منطقة السيدة نفيسة بالقاهرة- لأقرأ عليه ختمة القرآن، ويفيض عليّ من خواطره فى تفسير القرآن والفوائد اللغوية والبلاغية، فكنت أنسى الدنيا بأسرها بهمّها وغمها، مُحَلِّقاً كالنسر فوق السحاب فرحاً ورفعةً. إنّ مجالسة الشعراوى للحظة كانت أعظم عندى وأحب من مجالسة أعظم سلاطين الأرض ومشاهيرها وأثريائها.. وقد شعرتُ باليُتمِ المعنوى بعد وفاته لأننى تذوقت حلاوة القرآن معه بشكل فريد لا يُضاهى. وقد حضرت جنازته فى «دقادوس» وكانت مهيبة كم أفتقدك كل يوم يا شيخى الشعراوى الجليل وتفتقدك الأمة الإسلامية بأسرها عندما نرى دعاة يتاجرون بالدين ويستغلون بساطة الناس ويربطون عقولهم بحبال التبعية المَقيتة. كان هؤلاء جميعا لا وزن لهم لأن الشعراوى كان يملأ الساحة علما ووقاراً ومهابة وخشية من الله، حتى ابتلينا بالمتلونين وأصحاب غزوات الصناديق وتسخير الدين للسياسة، ومَن همّهم الأول فى التمسك بالسُّنة من خلال تسويق تعدد الزوجات لأنفسهم. فى الوقت الذى يعانى فيه أكثر الشباب والشابات من العنوسة بسبب غلاء تكاليف الزواج .. ناهيك عن الخصومات على شاشات الفضائيات بين المشايخ فيما بينهم أو مع غيرهم حول مواضيع تافهة ونشر الفتاوى الشاذة كزواج القاصرات وإرضاع الكبير التى جعلت العالم الغربى يسخر من عقولنا وتفاهتنا، بدل أن يصب هؤلاء الشيوخ جهودهم لحث أنفسهم والمسئولين على إقامة العدل وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الأخلاق وإنقاذ المجتمع من الرذيلة والقتل والإلحاد وتقطيع الأرحام التى قطعت أوصال المجتمع العربي ، كانت الدعوة من أجل الله فى عهد الشيخ الشعراوى، وصارت بعده للشهرة وجنى الثروة حتى انقطع «شلش الحياء»، مشايخ كانت رواتبهم لا تتعدى مئات الجنيهات، فتحولوا لأباطرة بين ليلة وضحاها مُسْتَغِلِّين قصص القرآن وسيرة الرسول وأصحابه الذين قدّموا أرواحهم وأملاكهم فى سبيل الدعوة التى جنى فيها الدعاة الجدد اليوم الثروات على أكتاف كفاح الصحابة وسيرتهم العطرة. يعلم الجميع أن الإمام الشعراوى قام كغيره من الأئمة العصاميين بالسفر إلى السعودية للتدريس من أجل تحسين مستوى معيشته. كما قدّم حلقات تفسيره مجاناً للتليفزيون والشعب المصرى فى الوقت الذى عرضت عليه حينها دول خليجية رسمية مبالغ طائلة لعرضها على شاشاتهم. ويذكرُ التاريخ أيضاً أن الإمام الشعراوى أنفقَ معظم ما جناه فى العمل بالسعودية على وزارة الأوقاف عندما كان وزيراً لقلّة مواردها آنذاك. كما أقام مشاريع خيرية فى قريته «دقادوس» حين تبرع بجائزة المليون درهم التى حصل عليها فى دبى سنة 1998م كأفضل شخصية إسلامية عالمية. رأيتُ عنده بعض الشخصيات المهمة حينذاك لكنه لم يكن يعيرهم اهتماماً فلا يميزهم عن غيرهم من الحاضرين، كما رأيتُ بعض الفنانات المعتزلات مثل الحاجة ياسمين الحصرى والحاجة منى عبد الغنى، والأستاذ محمد وفيق الذى نصحه الإمام كى يخبر الفنانين ألا يُفسدوا أعمالهم ب «الأحضان والبوس» وأخبره كيف اعتزل الممثل الذى قام بدور المسيح كى يحافظ على مهابة المقدس عندهم. وقد أهدانى الشيخ الشعراوى مصحفاً وعباءته الخاصة بقيت عندى ذكرى طيبة لا تُنسى. كنت أستغل هذه الفرصة النادرة جدا بوجودى مع الإمام كى أسأله فى كل جوانب الدِّين وآرائه فى المسائل الشرعية، والقضايا المعاصرة، فسألته عن مشروعية التيارات الإسلامية فأجابني:دى سياسة ومصالح وربُنا قال «كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحُونَ» فمافيش حاجة تتقال بعد كده.. وسألته عن عمل المرأة، فقال: زوجة رسول الله خديجة كانت من أكبر التجار والنبى أدار تجارتها قبل تكليفه بالوحى، فإيه المانع ما دامت مراعية الضوابط الشرعية، وتعمل إيه لو زوجها طلقها وعندها عيال، تروح تشحَت ولاّ تكون بتشتغل عشان لو طلّقت وجوزها مش عاوز يصرف على عيالها». كان الإمام يكره التشدد والتزمت ويعيب على أصحاب العقول الضيقة وكان يقول لي: النبى جاء مُيَسِّراً ودُوْلْ واحدهم مُعَسِّر. سألته عن الطرق الصوفية المتعددة التى تجتمع فى مسجد الحسين وتقوم ببعض الطقوس يتوسطها شخص يدير كل طريقة ويصفّق أحياناً، لأن هذه المظاهر غير منتشرة عندنا فى لبنان، فأجابنى أنا دايما أقول لهم اللى عنده وِرْدْ يعمله فى بيته أو يؤدى الأذكار فى المسجد، ولما كنت وزيراً نصحتهم بلاش الطقوس دى فى المساجد ويكتفوا بالأذكار بس، كما هى سنّة النبى. سألته عن البنوك وتحريم بعض المشايخ فى التعامل معها، فقال هذا جهل لأنه يخضع لفقه النوازل فغالبية الدول الإسلامية بثرواتها الطائلة قصّرت فى إنشاء نظام مالى يضارع النظام المالى فى بلاد الغرب، فصارت خاضعةً له دون قدرتها عن الاستقلال التام عنه. وسألته عن أسباب النصر ومتى تعود العزّة للأمة الإسلامية فقال: لن تعود حتى نُحقِّقَ قولَ الله: «عباداً لنا أولى بأسٍ شديد».. كان الإمام الشعراوى يكرمنى بالدعاء ولكل من أسأله الدعاء لهم بالاسم، وأذكر أننى طلبت منه الدعاء لصديق لى فى لبنان يريد الزواج من أجنبية، فقال لى: «بلاش المرة دى، ما حدّش بيتجوز مرات غيره».. وكان ينصحنى بملازمة القرآن الكريم وعدم الانضمام إلى أى حزب أو جماعة أو تيار إسلامى، ويقرأ قوله تعالى «هو سمّاكم المسلمين». الحمد لله أن الجميع هنا فى مونتريال يعرفون علاقتى المميزة بشيخنا الشعراوى وتفضُّله عليّ بالتعليم والتوجيه والإرشاد، ومن المؤسف أن أرى وأُصْدمَ بعدد الشباب والأطفال الذين تم توقيفهم فى كندا وأمريكا وأوروبا والإعلان عن ارتباطهم أو تعاطفهم مع الجماعات المتطرفة التى تقاتل باسم الإسلام فى سوريا والعراق. وكان آخر من تم توقيفهم الشباب العشرة فى مطار مونتريال حيث أقيم منذ 2003. وقد طلبت منى بعض الجهات الرسمية الكندية التى أشكرها لأنها أرادت حماية هؤلاء الشباب من أنفسهم، أن ألتقى بعضهم لتقديم النصيحة الدينية لهم كى يعدلوا عن الأفكار المتشددة والانعزالية التى يعيشون فيها. كان منهج الإمام الشعراوى حاضراً فى ذهنى وروحى فى حوارى مع بعض الشباب. وقلتُ لأحدهم إن السلطات الكندية طلبت منى أن أتحدث معك، ألا ترى كيف تركوك حرّاً طليقاً مع أنّ تهمتك ليست بعيدة عن الإرهاب؟ وها أنت تجلس معى آمناً فى المسجد ولم تتعرض لتعذيب أو إكراه من قِبَلِ الجهات الأمنية الكندية لتعترف على أصحابك! وقاطعنى أبوه الذى كان يجلس بجانبى قائلاً: لقد رأيتُ فى بلدى فى التسعينيات كيف دخل الأمن إلى بيت إحدى قريباتى باحثين عن زوجها فوضعوا طفلها الرضيع أمامها فى الفرن كى يُجبروها على الاعتراف بمكانه! ثم سألتُه قائلاً: السلطات الكندية علمت أنكم ستسافرون إلى سوريا، فلماذا لم تترككم تسافرون وتُقتلون هناك فترتاح من وجود أمثالكم ممن تعتبرهم يهددون أمنها القومى ويخالفون دستورها وقوانينها؟ ألا ترى معى أن كندا منعتكم لأنكم أبناؤها الذين علمتكم صغاراً وأطعمتكم من خيراتها؟ ألا ترى معى أن كندا تحبكم وأرادت إنقاذكم وإنقاذ آبائكم وأمهاتكم الذين أصابهم المرض بسبب ما فعلتموه! هذا هو فكر الإمام الشعراوى الذى نحتاجه اليوم لإعادة الشباب إلى رشدهم، وإنقاذ الدعاة من غرورهم، وإعادة الأخلاق والقيم إلى مجتمعاتنا عبر كتاب الله وسنة نبيه الأمين ومن سار على نهجهم بإحسان إلى يوم الدين. إلى اللقاء يا مولانا الحبيب الشعراوى، فغداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.