لاريب ان العقل الثقافي المصري مدعو بإلحاح لطرح وتطوير مبادرات تستهدف مواجهة "حالة الحرمان والتهميش الثقافي" في بعض المناطق خاصة بالريف وتجسير الفجوة بين الرؤى النظرية والمستويات الأدائية مع عدم الانفصال واقعيا عن السياقات الاجتماعية والثقافية. ومن هنا فإن الهيئة العامة لقصور الثقافة جديرة بالإشادة لمبادرة طرحتها من أجل العمل الثقافي في "القرى المحرومة" في وقت تؤكد فيه طروحات جادة على أهمية الأنشطة الثقافية جنبا إلى جنب مع الإعلام كأداة تحديث هامة في المجتمعات النامية ناهيك عن التغيير الإيجابي للبيئة المحفزة على العنف. وشرعت الهيئة العامة لقصور الثقافة في تنفيذ برنامج تدريبي لمواجهة ظاهرة "الحرمان الثقافي" فيما يتضمن هذا البرنامج مجموعة من الورش التدريبية والأنشطة الفنية والثقافية "بالقرى المحرومة من الخدمة الثقافية" ودعم الموهوبين من أبناء هذه القرى. وتقول هويدا عبد الرحمن رئيسة الإدارة المركزية للتدريب وإعداد القادة الثقافيين بالهيئة العامة لقصور الثقافة إن هذه المبادرة في إطار التواصل المستمر بين الهيئة والجماهير العريضة في المجتمع المصري من خلال مثقفيها ومبدعيها وأبنائها من العاملين بها والذين هم حجر الزاوية للعملية الثقافية للمجتمع منوهة بأن هذا التواصل يمثل انعكاسا للحراك الثقافي الذي يعيشه المجتمع. وأوضحت هويدا عبد الرحمن أن المبادرة بدأ تنفيذها في "قرية شبشير الحصة" بمحافظة الغربية اعتبارا من امس الأول "السبت" وحتى الرابع من شهر يونيو الحالي حيث تشهد هذه القرية - التي كانت محرومة ثقافيا -عدة ورش تدريبية وأنشطة فنية وثقافية لتنمية الحراك الثقافي. ويقام حفل الختام برعاية وزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي ومحافظ الغربية المهندس سعيد مصطفى كامل وقيادات العمل الثقافي والتنفيذي بالمحافظة ويتضمن معرض منتجات من إنتاج الدارسين وأبناء هذه القرية إلى جانب عدة أنشطة للرسم والأشغال الفنية والحرف اليدوية ومشاهدة عرض فني موسيقي وعرض فيلم من إبداع وإنتاج الدارسين وبعض الجداريات. وظاهرة الحرمان الثقافي تتجلى أيضا في بعض قرى الوجه القبلي بصعيد مصر في سياق التهميش الذي تعرض له الريف المصري عموما في مراحل سابقة فيما تتحرك المؤسسات الثقافية الرسمية لمواجهة هذه الظاهرة. ويصب افتتاح متحف السيرة الهلالية امس الأول في بلدة أبنود جنوب محافظة قنا في مربع مواجهة ظاهرة الحرمان والتهميش الثقافي فيما جاء الاحتفال بافتتاح هذا المتحف الذي يعد منارة ثقافية جديدة في صعيد مصر في ذكرى أربعينية الشاعر الراحل الكبير عبد الرحمن الأبنودي ابن بلدة ابنود. وشارك في هذه الاحتفالية وزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي ووزير التنمية المحلية عادل لبيب ووزيرة الدولة للسكان الدكتورة هالة يوسف ولفيف من السفراء العرب والمثقفين والإعلاميين كما تم افتتاح معرضين ببلدة ابنود أولهما للفن التشكيلي بعنوان: "من وحي الأبنودي" والثاني معرض للكتاب تضمن إصدارات لوزارة الثقافة. ومكتبة ابنود التي افتتحت في هذه المناسبة تتكون من طابقين و اللافت أنها تضم مجموعة كبيرة من الكتب للأطفال فضلا عن صالة للهوايات ومكتبة اطلاع للشباب الذين لطالما اعتبرهم الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي الأمل في مستقبل افضل لهذا الوطن. وتقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن الأستاذة بكلية الإعلام في جامعة القاهرة أن الظروف التاريخية والسياسية لعبت دورا سلبيا في إقصاء الصعيد وتغييبه عن أنظار واضعي السياسات وصناع القرار والمثقفين والإعلاميين والأكاديميين والباحثين. وبمنظور نقدي ترى الدكتورة عواطف عبد الرحمن أن وسائل الإعلام في العاصمة أسهمت في تهميش الصعيد وتشويه صورته بترويج صورة مغلوطة ومختزلة ومبتسرة "ساعدت على تكريس الفجوة الثقافية والنفسية بين أهالي الصعيد وسائر أبناء الوطن" رغم المبادرات الرسمية التي قامت بها السلطة الحاكمة في السنوات الأخيرة لتصحيح موقع الصعيد على خريطة التنمية والإصلاح. ورغم ما يحفل به الصعيد حاليا من تعدد الأنشطة الرسمية والمدنية ووجود صروح علمية جامعية متميزة مثل جامعة أسيوط إلا أن الدراسات القليلة التي أجريت عن الصعيد- حسبما تقول الدكتورة عواطف عبد الرحمن-تشير إلى استمرار تدني مستويات الحياة وتصاعد نسبة الأمية وانتشار البطالة. وأضافت قائلة :"كما كشفت الدراسات ان جامعات الصعيد بعد مرور ما يزيد عن خمسة عقود على تأسيسها في أسيوط والمنيا وسوهاج وجنوب الوادي لم تضع استراتيجية علمية لإجراء البحوث الأساسية المسحية والتاريخية والوثائقية عن الواقع المجتمعي السياسي والاقتصادي والثقافي في الصعيد. وتابعت الدكتورة عواطف عبد الرحمن :" بل لاتزال أولويات الأجندة البحثية في العلوم الاجتماعية في جامعات العاصمة هي المهيمنة على عقول ومشروعات الباحثين الاجتماعيين في جنوب مصر وإذا كانت أجندة جامعات العاصمة لاتزال أغلب أولوياتها البحثية في مجال العلم الاجتماعي تدين بالتبعية الأكاديمية للجامعات الأمريكية والأوروبية فإن هذا يعني الاستمرار في إعادة إنتاج الأجندة الأجنبية في مجال البحث الاجتماعي في جامعات الصعيد". واعتبرت أستاذة الإعلام الدكتورة عواطف عبد الرحمن في طرح بجريدة الأهرام ان ذلك "يفسر أسباب خلو الساحة العلمية من البحوث الأساسية عن التركيب الاجتماعي والبنية الثقافية والأوضاع الاقتصادية والسياسية" كما ان ذلك كله يعني أن "أهالي الريف خصوصا النساء في صعيد مصر يعانون التهميش والإفقار المضاعف اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا". ولعل مثل هذا الطرح وغيره من الطروحات الجادة لمثقفين مصريين يوميء لأهمية إجراء بحوث ثقافية مصرية لمواجهة فاعلة لظاهرة الحرمان الثقافي بعيدا عن النقل والاقتباس والتبعية للتيارات السائدة في الغرب أو عالم الشمال حيث تختلف السياقات والمعطيات ومعدلات التطور وإيقاعات وسرعات التحديث ناهيك عن الخلفيات التاريخية ومنظومات القيم والأنماط السلوكية. وفي دراسته القيمة :"التحليل الثقافي للمجتمع..نحو سياسة ثقافية جماهيرية" يؤكد المفكر المصري السيد يسين على أهمية قراءة البعد الثقافي لأي أزمة لفهم أسبابها وتفسير تداعياتها وتحديد طرق حسمها لافتا إلى ضرورة أن يكون منهج التحليل الثقافي في دول العالم الثالث نابعا وممثلا للبيئة وا وضاعها الثقافية والاقتصادية والسياسية. ومع المحاولات المستمرة من جانب القوى المتحكمة في السوق العالمية لعولمة الثقافة وغيرها من مكونات المنظومة الحضارية لإعلاء شأن الثقافة الغربية وتهميش ثقافات الجنوب على حد تعبير الدكتورة عواطف عبد الرحمن فإن ثمة حاجة في مصر وغيرها من الدول النامية التي تعاني من ظاهرة الحرمان والتهميش الثقافي لإدراك أهمية بناء نماذج ثقافية أصيلة تجابه ما يعرف "بآليات الاستعمار الثقافي التي تروج وتفرض أساليب حياة دخيلة وقيم غريبة على هذه المجتمعات في عالم الجنوب وتكرس التبعية الثقافية". وواقع الحال أن مواجهة ظاهرة الحرمان الثقافي إنما تخدم قضية التحرر الثقافي والاجتماعي ويمكن أن تعزز القيم الأصيلة دون أن يعني ذلك مخاصمة التحديث فيما طرح الإذاعي والشاعر الكبير فاروق شوشة مؤخرا فكرة جديدة هي : "أكشاك الثقافة" التي ينبغي أن تقام في كل قرية ونجع لتلبي الاحتياجات الثقافية لملايين المصريين موضحا أن هذه "الأكشاك" يمكن أن تكون في صورة مكتبات متنقلة وتقدم أيضا عروضا سينمائية ومسرحية وأنشطة فنية موسيقية وغنائية. وفي هذا السياق قال فاروق شوشة :"آن الأوان لكي نحلم بثقافة تمشي على الأرض, تلامس الواقع وتشتبك معه بدلا من ثقافة المزاعم والرؤى والتصورات التي تندثر عادة بالكلمات الكبيرة البراقة" معتبرا ان الواقع على مستوى الاحتياجات والإمكانات يتطلب "ثقافة تمشي على قدمين ولا تحلق في الهواء" وهي "ثقافة مغروزة في طين مصر الذي يعيش فيه وعليه الملايين من أبناء الوطن في القرى والعزب والكفور والنجوع". وفي سياق اجتماعه بالوزراء الجدد ومن بينهم وزير الثقافة الدكتور عبد الواحد النبوي كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أولى أهمية خاصة للثقافة المصرية مؤكدا أهمية تفعيل الإمكانات المتاحة بوزارة الثقافة ولاسيما قصور الثقافة فضلا عن العمل على الارتقاء بالذوق العام. وعقب أدائه اليمين يوم الخامس من شهر مارس الماضي قال وزير الثقافة الجديد الدكتور عبد الواحد النبوي :"إننا نحتاج إلى تقوية الجسور التي تربط الوزارة مع المبدعين والأدباء مؤكدا على اعتزامه دعم الأنشطة الثقافية في النجوع والمناطق النائية فضلا عن الاهتمام بنشر الوعي بين الشباب والاستفادة من طاقاتهم الابداعية ورأى انه "على الجميع التكاتف الآن للوقوف في وجه الجهل والإرهاب" . وفيما تهب من حين لآخر رياح الجدل والاحتقانات الظاهرة حول اداء وزارة الثقافة واجهزتها حاملة في ثناياها أسئلة هامة حول دور هذه الوزارة وسياساتها ويتردد من جديد السؤال الكبير حول حقيقة التغير الذي طرأ على المشهد الثقافي ومجمل السياسات الثقافية الرسمية بعد الثورة الشعبية المصرية بموجتيها 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 فان هذه الوزارة تدخل الآن مرحلة جديدة من اهم ملامحها مواجهة ظاهرة الحرمان الثقافي. والمواجهة الفاعلة لظاهرة الحرمان الثقافي كفيلة بالرد على انتقادات ترددت على السنة بعض المثقفين ومنابر بعض الصحف ووسائل الإعلام المصرية حول العجز عن التواصل مع الجماهير العريضة أو طرح برامج ثقافية تحظى باهتمام شعبي حقيقي فضلا عن الاستمرار في ظاهرة تمركز اغلب الأنشطة الثقافية بالعاصمة وإهمال الريف. وفي المقابل طالبت قيادات وزارة الثقافة من قبل بتوفير الدعم الكافى للوزارة بما يسمح بإنجاز خطط ومشروعات التطوير وتحقيق رسالتها فى خدمة الثقافة والمواطنين فى ربوع مصر وأكدوا على وجود إدارات متخصصة في قياس الرأي الثقافي مثل "الإدارة المركزية للدراسات والبحوث" بهيئة قصور الثقافة. وبعيدا عن أي نزعة بلاغية أو إنشائية فوزارة الثقافة وهيئاتها من المفترض أنها تتحمل المسؤولية الكبرى فى ترسيخ ثقافة ثورة يناير-يونيو فى كل أوجه ومجالات الحياة المصرية. فالقضية هي تحويل او ترجمة البنية المادية لوزارة الثقافة بهيئاتها وكل ما يتبعها من كيانات بكل نفقاتها الى رصيد فاعل في الوعي المعرفي والثقافي والتنموي بحيث يصل العائد الثقافي الى مستحقيه على امتداد الوطن وحتى تتبوأ مصر مكانتها الثقافية المستحقة على مستوى المنطقة والعالم...واجب الوقت مواجهة ظاهرة الحرمان الثقافي..انها لحظة الحقيقة وحقيقة اللحظة!.