"كان من دواعى سروره إحراق الأشياء، من السار جدًّا رؤية الأشياء وهى تتحلل، رؤية الأشياء تسود وتتغير"، السطور الأولى من رواية "فهرنهايت 451" كابوس عن حرق الكتب. دائمًا ما يقفز إلى ذهنى مع افتتاح معرض الكتاب، الاحتفالية السنوية لخير أنيس فى الزمان، عندما يتراصُّ الآلاف منها فوق أرفف صالات العرض، كقارئ أشعر بالبهجة، لأن هناك ما يستحق أن يُقرأ ويثير الدهشة، أستعيد فرحتى وأنا أتصفح الكتاب الأول، متعة الاكتشاف التى لن تنتهى إلا مع لحظة الممات، وككاتب، يصيبنى مشهد أعداد الكتب الهائلة بنوع من الإحباط وأنا أتساءل: هل ثمة بقية من كلمات يمكن أن تكتب بعد كل هذا الكم الهائل من الصفحات؟ هل هناك أفكار لم تعرض بعد؟ تساؤل محير يمكن أن يمنع المرء من الكتابة نهائيا، ولكن هناك إحساسا داخليا، ربما سنّة صغيرة من غرور، تجعلك تعتقد أن لديك شيئًا لم يكتب بعد، لم يقله أحد غيرك، دافعا خفيا للكتابة يجعلك تضيف كتابًا إلى الآلاف التى صدرت بالفعل، ولكن ماذا يمكن أن يحدث إذا كان العالم بلا كتب؟ هذا هو الكابوس المرعب الذى تخيله الكاتب الأمريكى راى برادبرى فى فهرنهايت 451 درجة الحرارة التى يحترق عندها الورق، وهو من أشد أدباء الخيال العلمى غزارة، تكاد مفاتيح آلته الكاتبة أن تتحرك وحدها، لم يكتب الرواية لينتقد ما فعله هتلر الذى نفذ أكبر محرقة للكتب فى بداية الأربعينيات، ولم يتنبأ بما سيفعله القذافى فى الثمانينيات، ولكنه كتبها فى الخمسينيات وسط جو من القمع والكبت الفكرى الذى كان يسود أمريكا فى فترة المكارثية ، نسبة إلى جوزيف مكارثى عضو مجلس النواب الذى كان يرأس لجنة تفتش فى ضمائر الكتّاب وتمنع أعمالهم وتكبت آراءهم بحجة مقاومة الشيوعية، وكان برادبرى يخشى تكرار محرقة الكتب فى أمريكا نفسها، واختار أن تدور الأحداث فى بلد خيالى، ديستوبيا، نقيض اليوتوبيا، أى المدينة الفاضلة، حيث تقوم وحدة المطافئ بإشعال الحريق بدلا من إطفائه، وينبعث من الخراطيم التى تحملها الكيروسين بدلا من الماء، ولها الحق فى اقتحام البيوت التى تشتبه فيها وتقوم بإحراق كل أنواع الكتب، استئصال كل الأفكار العميقة ومحاربة الحكمة وتسطيح الوعى، بحيث يمكن تطويعه بسهولة وقتل كل مشاعر الإنسانية التى يغذيها الأدب والشعر. والهدف هو تقديم معلومات بسيطة إلى المواطن من خلال التليفزيون ووسائل التكنولوجيا الأخرى وتصويرها على أنها حقائق الكون، والابتعاد عن آفاق التفكير العميق مثل الفلسفة وعلم الاجتماع. بطل الرواية يدعى مونتاج اسم مستوحى من صناعة السينما، حيث يتم ترتيب المشاهد واستئصال ما هو غير ضرورى منها، لذا يبدو مستمتعًا بمهنته فى إشعال الحرائق، لأنه يعتقد أنه يعيد ترتيب العالم عن طريق استئصال الكتب، وهو يعمل بنصيحة رئيسه الذى يحثه قائلا: لنتخلص من الأفكار غير المجدية، كلمة مثقف صارت سبة كما يجب لها أن تكون، الكتب لا تقول شيئًا، القصص تتكلم عن أناس خيالين، والفليسوف أستاذ يعتبر بقية الأساتذة بلهاء، كلهم يحاولون محو النجوم وإطفاء الشمس، النار تحل كل شىء، النار نقية طاهرة ، رغم ذلك فإن مونتاج يتغير، عندما يشاهد امرأة عجوزًا تقاوم، لا تترك كتبها وتصر على أن تحترق معها، وعندما يتعرف على فتاة جميلة توقظ بداخله إنسانيته الضائعة وسط رماد الحرائق، تقنعه بأن يتعرف على محتويات الكتب قبل أن يحرقها، فهناك من يقضى سنوات طويلة من عمره ليكتبها، بينما يحرقها هو فى ثوان، ويستجيب مونتاج لإلحاحها ويخبئ بعضًا منها ليقرأها خِفْية، ويحدث التغيير فى أعماقه، يقع أسيرًا لسحر الكلمات، ويعيد اكتشاف ذاته، فهو ليس آلة للدمار ولا يجب أن يكون ذلك، ولكن أمره ينكشف، يعرف رئيسه أنه يخبئ الكتب فى بيته، ويتوجه للقبض عليه، لكن مونتاج يوجه نحوه خرطومه الحارق، ويهرب مع الفتاة إلى الجبال، وهناك يقابل تجمعًا من المثقفين هواة القراءة، يحفظون الكتب عن ظهر قلب، كل واحد منهم قد تحول إلى كتاب حى، وهناك جد عجوز يجلس ليلقن حفيده الصغير سطورًا من كتاب حتى لا يضيع بموته، وتختتم الرواية بصفارات الإنذار لحرب سوف تنشب لتدمر هذه المدينة التى هجرت تراثها وطابعها الإنسانى، ويبقى حافظو الكتب آمنين وسط الجبال لعلهم يعيدون للمدينة وجهها وتراثها. فى عام 1966 اختار المخرج الفرنسى فرانسوا تريفو الرواية ليحولها إلى فيلم سينمائى، لم تكن أفلامه السابقة التى تنتمى إلى مدرسة السينما الجديدة قد وفرت له الشهرة اللازمة، لذا استغرق فى التجهيز أربع سنوات كاملة حتى يوفر ميزانية الإنتاج، وتم تصوير الفيلم بأكمله فى بريطانيا، رغم أن تريفو لا يجيد الإنجليزية، ولكن الصعوبة الأكبر كانت مع بطل الفيلم أوسكار وارنر ، فقد كره كل منهما الآخر، تصاعدت الخلافات بينهما طوال فترة التصوير، ورغم أن هذا فيلمه الملون الأول فإنه خلق فيه أبعادًا إبداعية فى استخدام اللون، وخلق فيلما ما زال مثيرًا من الدهشة حتى الآن، وهو يعد من كلاسيكيات سينما الخيال العلمى. الخلاصة أن عالمًا خاليًّا من الكتاب يعنى عالمًا بلا حضارة ولا إنسانية ولا بهجة.. وخالص التحية لمعرض الكتاب.