لا شىء تغير فى مصر. لا شىء خلال القرن العشرين، أو حتى أثناء السنوات الماضية من القرن الحادى والعشرين. لا شىء تغير إلا من حيث الشكل. حلم الإنسان القرد المعتدل القامة، إنسان الكهف الأول، فيما قبل التاريخ بتاريخ، مازال يراودنا فى مصر إلى الآن. الحلم الأكثر قِدماً فى لاوعى اللاوعى البشرى. الأبهظ ثمناً منذ الدُش الإنسانى الأولِ تحت الشلالات. الحلم الغائر بين خلايا أجزاء المخ المنقرضة، مازال بعيداً عنا فى مصر إلى الآن. لا أحد تعلم شيئاً من قصة مصر المحروسة، منذ كتاب الموتى حتى موت الكتب على أرصفة الأزهر. لا أحد تعلم شيئاً بالمرة. مازلنا نحلم فى مصر حتى العقد الثانى من هذا القرن الحادى والعشرين، بمكان آمن، لا تنهشنا فيه وحوش الغابة، وبشعلة نار نتدفأ بالليل عليها، وبشخص ما إن تقع علينا عيناه، حتى يسألنا ملهوفاً: أخبارك إيه؟ شخص يجزع حين يرانا نتألم، أو حين يداهمنا فجأة، حزن غامض: شكلك ليه دايماً قلقان؟ مازلنا نحلم فى البلد الأطول تاريخاً، بجدار نرسم فى لحظات الشجن عليه شوارع مزدحمة، ومقاه وسلالم متهدمةً أو شرفات، ونيونات تتلاعب بظلال المارة، وفساتين كقمصان الجبس، تنتظر هواء يناير حتى تتمرد، وضفائر ألقوا القبض عليها كى لا تتكلم، وشفاهاً جفت من طول الصمت. نرسم أطفالاً كانوا حتى الظهر مجرد أسرى بمدارسهم، ثم إذا دق الجرس يعودون إلى معتقل الأسرة. مازلنا نحلم فى البلد الأطول تاريخاً، بجدار نرسم فى لحظات الشجن عليه يمامات بيضاء، فيها شبه من جدات لم يكملن لنا الحدوتة، وتحولن إلى برواز بالأبيض والأسود بين براويز الصالة. مازلنا نحلم فى البلد الأطول تاريخاً، بجدار نرسم فى لحظات الشجن عليه وجوهاً لا ننساها، وعيوناً تبحث عنا ونرانا فيها، وملامح إنسان أدمنه القلب. مازلنا نحلم فى أُم الدنيا حتى القرن الحادى والعشرين، بمجرد ريشة، نغمسها فى حبر الأيام السوداء لنكتب شيئاً يشبهنا. مازلنا نحلم فى أُم الدنيا حتى القرن الحادى والعشرين، بنبات كالبردى، لا يبلغ عنا لو صارحناه بلحظة ضعف عشناها. لا يضرب طفلاً بالمسطرة إذا هو يوماً شخبط فيه. لا يقطع رقبة بنت أرهقها الكتمان، فاعترفت منذ السطر الأول، كيف ابتسمت بالأمس لولد من خلف الشيش. مازلنا نحلم فى أُم الدنيا حتى القرن الحادى والعشرين، بمساحات أخرى، نكتب فيها أفكاراً قد تختلف مع المتوارث، أو قد تصدم من يخشون البحر لأن البحر ملىء بالتيارات السفلية، والموج الهادر، والجنيات، والمستنقع ساكن، مستسلم، ليست فيه عواصف. نحلم بمساحات نكتب فيها أشعاراً بالحبر السرى، ورسائل حب بالشفرة، ونغنى ونبوح إليها بجراحات ياما حاولنا أن نخفيها حتى عن أنفسنا. بزمان لا يتنصت فيه البصاصون على من يهمس أو يضحك أو يصرخ أو يبكى عبر الإنترنت. بزمان لا يدهم أحد فيه قلوب الناس، بحثاً عن كتب ممنوعة، أو أوراق، خبأناها خلف الشريان التاجى، أو قصة حب لم نتحدث أبداً عنها. بزمان لا توجد فيه محاكم تفتيش، أو نخاسون بزى الكهنة، أو تجار عقائد وشعارات. لا نحلم لا سمح الله بوطن يسبح فى المستقبل. هذا ببساطة، سيهاجمه حاخامات الإرهاب الفكرى أو الإبداعى أو داعش بكتائبها فى الفيسبوك. الحلم بوطن حر، فى أُم الدنيا، لا يرضى كهنوت التكفير. الحلم عند الكهنة : خروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة. مازلنا نحلم فى أُم الدنيا حتى القرن الحادى والعشرين، بزمان يتحقق فيه، حلم الإنسان القرد المعتدل القامة، إنسان الكهف الأول، فيما قبل التاريخ بتاريخ. الحلم الأكثر قِدماً فى لاوعى اللاوعى البشرى. الأبهظ ثمناً منذ الدُش الإنسانى الأولِ تحت الشلالات. الحلم الغائر بين خلايا أجزاء المخ المنقرضة. الحلم بأن نتكلم! نتوجع! نتنفس! الحلم بأن نتحرر. الحلم بأن «ن ت ح ر ر» لا أكثر.