تثير الأوضاع الأمنية المتدهور فى العراق استنفارًا عربيًا وعالميًا لا يقل عن حالة الاستنفار التى صاحبت عملية احتلاله فى اوائل العقد المنصرم وتحديدًا فى عام 2003. صحيح أن أوضاع اليوم تتضمن كثيرًا من الملابسات والتحولات التى ربما تختلف عما كانت عليها الأوضاع وقت الغزو، إلا ان العنصر المشترك بين الحالتين أن ما جرى فى العراق عام 2003 وما استتبعه من أحداث لم يحرك ساكنا فى العالم العربى، وهو ما يجد له شبيها اليوم، ففى خضم الأزمات المتتالية والمتشابكة التى تعيشها البلدان العربية منذ بداية هذا العقد فيما سمى كذبا وزورا ربيعا عربيا، انشغلت كل دولة بقضاياها ومشكلاتها، فوقف العراق وحيدًا تتنازعه الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية من كل حدب، إلا أن أكثر الأحداث جذبا للانتباه هو الموقف الإيرانى الذى لعب دورا محوريا فى سقوط بغداد على يد الاحتلال الأمريكى البريطانى، واليوم يتكرر هذا الدور والموقف معا. رغم ما قد تظهره القراءة السطحية للأحداث بأن إيران سوف تتدخل من أجل إنقاذ المالكى الحليف الذى مازال يركن إلى الظهر الإيرانى فى تعامله القمعى والإرهابى مع المعارضين سواء من السنة او الشيعة، إلا أن الواقع قد يحمل متغيرات اخرى من المهم أخذها فى الاعتبار عند النظر الى تحليل الدور الإيرانى الجلى فى الأزمة التى تواجهها العراق، فقد عبّر الرئيس الايرانى روحانى عن حقيقة جلية وواضحة بأن التدخل العسكرى فى العراق مستبعدا وغير مطروح، وهو فى الأغلب السيناريو الاكثر ترجيحا، إلا أنه لم ينف تدخلًا إيرانيًا سافرًا فى الشأن العراقى ليس اليوم فى ظل توتر الاوضاع وتصاعدها وإنما كان هذا الدور هو السبب الرئيسى إن لم يكن الوحيد الذى أدى الى ان تصل العراق الى ما هى عليه اليوم. ومن ثم، يمكن القول إن الدور الإيرانى فى الازمة العراقية قد يفسر فى ضوء توجهين تحاول طهران توظيف كل منهما وفقا لمصالحها ومقتضيات اللحظة التى تواجهها: الأول، أن تعارض ما تقوم به داعش فى العراق وانها تقف الى جانب رئيس الوزراء المنتخب والذى لم يتسلم السلطة رسميا حتى اليوم "نورى المالكى"، وهو ما يستوجب أن تدعمه بمزيد من قوات الحرس الثورى التى تقاتل الى جانبه، وربما يكون هذا التوجه هو الاكثر رواجا وتفسيرا لطبيعة الدور الايرانى فى الازمة. أما التوجه الثانى، يتمثل فى قيام طهران بدعم وتحريك داعش ومحاولة تمهيد الساحة أمامها إما بهدف جعل خيار البقاء على المالكى هو الخيار الافضل لكافة الاطراف او التضحية به فى سبيل تحقيق مزيد من المكاسب على أرض الواقع بعد فشله وعدم قدرته على ضبط ايقاع المساومات والتفاوضات مع بقية الاطراف العراقية، فيتم التضحية به مع صناعة بديل آخر يكمل الدور المنوط به. وفى ضوء هذين التوجهين، تدخل الازمة العراقية نفقا مظلما خاصة مع وضوح الموقف الامريكى الرافض للتدخل العسكرى لحسم الامر رغم مسئوليتها المباشرة عما آلت اليه الاوضاع العراقية بعد فشلها على مدار عقد منذ احتلاله وتسليمه لقمة سائغة الى طهران. مع الاخذ فى الاعتبار صحة الموقف الامريكى فى عدم التدخل العسكرى، لأن الامر برمته تتحمله الاطراف العراقية التى فشلت حتى اليوم فى التوصل الى تفاهمات تحافظ على وحدة الدولة واستقلاليتها، ولكنهم اتجه الى الخارج حيث ارتهنت ارادة كل طرف بارادة اطراف اقليمية ودولية تحرك الاحداث وفقا لمصالحها، وليس النموذج اللبنانى ببعيد عما يمكن أن تصل اليه الاوضاع فى العراق.
ولكن، ما يلفت الانتباه أن رغم جسامة الازمة وحدتها وتشابكها وتداعياتها الكارثية ليس فقط على العراقيين فسحب او حتى على السوريين، وإنما على الدول العربية بأسرها وخاصة دول مجلس التعاون الخليجى الجوار المباشر للعراق، بما يفرض عليها سرعة التعامل مع المستجدات اول بأول دون الانتظار حتى لا تفوت الفرصة ويصبح دور الجميع هو البكاء على اللبن المسكوب. صحيح ان الازمة رغم خطورتها الشديدة على أمن المنطقة إلا أنها ذات فائدة مهمة لكل الاطراف الاقليمية والدولية، حيث كشفت الاقنعة عن الوجوه السافرة التى ظلت تتخفى وراء شعارات وخطب، ولعل من أبرز الوجه السافرة التى كشفتها الازمة الوجه الايرانى القبيح الذى ظهر جليا أمام الجميع بانتهازيته وتواطئه وتدخله فى الشئون الداخلية لأطراف الجوار العربى، ذلك الوجه الذى لا يعبأ بالانتماء المذهبى بقدر ما يعبأ بالانتماء العرقى، بمعنى أنها حاولت على مدار الاعوام الماضية أن تدعم المليشيات والتنظيمات الارهابية المنتمية الى المذهب الشيعى بهدف زعزعة استقرار دول المنطقة كما حدث فى الازمة البحرينية خلال عام 2011 وكذلك دعمها لجماعات الارهاب فى شرق السعودية، إضافة إلى دعمها لتنظيم الحوثيين فى اليمن مع دوره الواضح فى الازمة السياسية اللبنانية عن طريق وكيلها "حزب الله"، إلا أن دعمها لم يكن لمجرد الانتماء المذهبى بل حاولت استغلال هذا الانتماء والتماهى الطائفى من أجل تحقيق هدف اقامة الامبراطورية الفارسية على الأراضى العربية. وهذه هى الرسالة الواجب أن تعيها الشعوب العربية بغض النظر عن انتماءاتها المذهبية والعقائدية، وليس أدل من ذلك صراعها مع بعض القوى السياسية العراقية رغم أنها شيعية بل الاكثر من ذلك مساندتها للدولة الارمينية فى صراعها مع اذربيجان حول قضية كاراباخ رغم أن أذربيجان دولة شيعية وأرمينيا دولة مسيحية.
ملخص القول إن الازمة العراقية الاخيرة رغم تعقيداتها وتشابكاتها تظل أزمة كاشفة عن وقائع وحقائق وجب على الشعوب العربية أن تعى وتدرك ما يخطط لها من قبل الاطراف الاقليمية بتواطئها مع اطراف دولية تسعى للهيمنة على مقدرات الشعوب وثرواتها، وهو ما يفرض على هذه الشعوب أن تلتحم بقادتها وأن تذود عن وطنها وخاصة فى دولتين رغم تباين مواقعهما ومكانتهما فى النظام الاقليمى، وهما: مصر والبحرين، فمصر نظرا لمكانتها الاقليمية ودورها المحورى فى قضايا المنطقة، والبحرين بحكم موقعها الجغرافى على حدود فى مواجهة الدولة الفارسية والاطماع التى تظهر بين الحين والآخر لقضم المملكة وضمها اليها كما فعلت فى الجزر العربية وهو أمر لا يمكن أن يتحقق فى ظل أمرين مهمين: الاول، التلاحم الشعبى والمجتمعى مع القادة السياسيين فى المملكة ولعل الدور الذى قامت به الحكومة البحرينية برئاسة الامير خليفة بن سلمان آل خليفة يقدم نموذجا لرجال تحملوا المسئولية فى لحظات فارقة فى تاريخ دولهما، وهو الامر الذى تكرر مع المشير عبد الفتاح السيسى الذى تحمل فى لحظة خطيرة فى تاريخ الدولة المصرية مسئولية انقاذها من الدخول فى أتون حرب أهلية. أما الامر الثانى، فعلى الدول العربية وخاصة الرائدة فى المنطقة وعلى رأسهم السعودية ومصر والامارات والبحرين أن تسرع باتخاذ الخطوات الجادة والحاسمة للتعامل مع الازمة بما يجنب اندلاع حرب اهلية وبدء حوار سياسى توافق بين مختلف الفرقاء للوصول الى حلول وسط ترضيهم بعيدا عن التدخل العسكرى.