انعقدت محكمة جنايات مصر برئاسة المستشار أحمد الخازندار، للاطلاع على ملفات القضية الكبرى التى تخص تورط جماعة الإخوان المسلمين فى تفجير دار سينما مترو.. كان هذا الرجل يتميز بالعلم الغزير وبنزاهة لا يرقى إليها الشك، فتصدى بقوة وجسارة النسور لمحاكمة مجموعة من جماعة الإخوان المسلمين المتهمين بحيازة متفجرات وأسلحة، وكانت هذه القضية قد عُرضت على دائرة أخرى تلقت تهديدات عديدة بالقتل.. فأخذت القضية تؤجّل حتى انتهت إلى الدائرة التى يرأسها الخازندار.. وطلب محامو المتهمين التأجيل، ولكن الخازندار رفض التأجيل وأصر بصلابته المعهودة على النظر فى القضية رغم تهديده بالقتل سواء برسائل أو مكالمات هاتفية عديدة، وحُكم فى القضية بحبس المتهمين بالأشغال الشاقة المؤبدة. فى يوم 23مارس من عام 1948م كان المستشار أحمد الخازندار خارجا من منزله بشارع رياض بحلوان ليستقل القطار المُتجه إلى وسط مدينة القاهرة حيث مقر محكمته.. وفى حوزته ملفات قضية الإخوان الشهيرة المعروفة ب«تفجيرات سينما مترو».. وما أن خرج من باب مسكنه حتى فوجئ بشخصين من أعضاء الجماعة وهما حسن عبدالحافظ ومحمود زينهم يطلقان عليه وابلا من الرصاص.
أصيب الخازندار بتسع رصاصات ليسقط صريعا مضرجا فى دمائه، وسط صُراخ أبنائه وندب زوجته.حاول الجناة الهرب سريعا لكن سكان حى حلوان الهادئ تجمعوا فورا عقب سماع صوت الرصاصات ليطاردوا المجرمين، فقام أحداهما بإلقاء قنبلة على الناس الذين تجمعوا لمطاردتهما فأصابت البعض، لكن الناس تمكنوا فى النهاية من القبض عليهما.
وكان المُثير للضحك والشفقة معا آنذاك هو تعليق حسن البنا على الحادث، الذى لخصه فى شعوره بالألم الشديد والاستياء، واصفا من قاموا بتلك الفعلة الشنعاء بأنهم ليسوا حتى مُسلمين! ثم يتبين من التحقيقات فيما بعد أن البنا لم يكن سوى ممثل فاشل لأن أحد هؤلاء الجُناة هو سكرتيره الخاص!.
مات الخازندار وبقيت شجاعته فى التصدى لقضايا الإخوان تاريخا لم يمحه الدم.. ووساما على صدر كل قاض وقف فى وجه حُلكة الإرهاب حاملا مشاعل العدل.
ولأن التاريخ عاد اليوم ليكرر الأحداث بنفس الأبطال، وبعد هذا التحول غير المرجو فى خطة الإخوان لحكم مصر رغم أنف شعبها.. عاد الإخوان اليوم لممارسة نفس أشكال الإرهاب والترويع ضد القضاة الذين ينظرون القضايا المتعلقة بقاداتهم، فيوجهون السباب والهتافات الجارحة ضد القضاة، كما أن بعض القضاة اعترفوا بأنه قد تم تهديدهم بشكل أو بآخر.. ولكن هذه المرة اختلفت قماشة البشر وخارت عزائم الرجال، وسكن الخوف بعض نفوس حُماة دولة العدل.. ما دفع بعض القضاة إلى التنحى عن نظر قضاياهم، وكلها تحت مبرر واحد هو «استشعار الحرج».
فخلال أقل من شهر وقعت 3 حالات لتنحى القضاة عن نظر قضايا الإخوان، كان آخرها تنحى الدائرة (18) بمحكمة جنايات جنوبالقاهرة برئاسة المستشار مصطفى سلامة عن نظر قضية اتهام 17 من قيادات جماعة «الإخوان المسلمين»، بينهم المرشد العام للجماعة محمد بديع، ونائباه خيرت الشاطر ورشاد بيومى، فى قضية «أحداث المقطم»، وهى المرة الثانية التى تتنحى فيها هذه الدائرة عن نظر نفس الدعوى، حيث سبقها تنحى دائرة المستشار محمد أمين القرموطى وبنفس السبب وهو استشعار الحرج.
وكان المستشار هشام سرايا رئيس محكمة جنايات شمال القاهرة قد قرر التنحى عن نظر جلسات محاكمة صفوت حجازى ومحمد البلتاجى وآخرين لاتهامهم بتعذيب ضابط، وأمين شرطة، لاستشعارها الحرج أيضا وإحالة القضية إلى محكمة الاستئناف لتحديد دائرة أخرى لنظرها.
أتصور أن ما قام به المستشار أحمد الزند إبان حكم محمد مرسى لمصر، حين تصور وقتها مُرسى كمندوب للجماعة أن باستطاعته إهانة القضاء والإطاحة باحترامه وسط صمت الجميع.. ولكن ما قام به المستشار الزند دون شك كان وقوف عاصفا فى وجه الرئيس وجماعته.. فقد حمل المستشار أحمد الزند رئيس نادى القضاة لواء الدفاع عن هؤلاء القضاة، وكانت البداية عندما ألغت المحكمة الدستورية قرار مرسى بعودة مجلس الشعب فى أول أيام حكمه، مؤكداً أنه قرار غير دستورى، بجانب معركة عزل المستشار عبد المجيد محمود وتعيين المستشار طلعت عبدالله، وفى النهاية قال القضاء كلمته بإلغاء هذا القرار، بجانب معركة الإعلان الدستورى المكمل التى حصن بها مرسى قراراته، لكن وقوف القضاة أمامه جعله يتراجع، كما ألغى القضاء دعوة مرسى للانتخابات البرلمانية، وإلغاء قانون مجلس النواب، إلى جانب حصار أنصاره المحكمة الدستورية، كما وقفوا بالمرصاد لمشروع قانون السلطة القضائية الذى كان يمثل انتقاما منهم..
وكانت آخر معارك القضاة الشرفاء هى قضية اقتحام سجن وادى النطرون والتى أصبح محمد مرسى متهما فيها، والتى حكم فيها المستشار خالد محجوب بما أملاه عليه ضميره دون أن ترهبه التهديدات، ولا أن تستوقفه المهاترات.. وبرهن بقراره للجميع أن حياته لا تساوى انحناء القضاء واختلال ميزان العدالة.. وبأن حياة الأفراد لا تساوى بقاء الأوطان.
فالقضاء مهنة مثل غيرها من المهن، ولأن من يعملون بها بشر فأصبح الخطأ والصواب جائزين فى بعض المواقف.. فمثلما ظهرت حركة (قضاة من أجل مُرسى) المعروفة إعلاميا باسم (قُضاة من أجل مصر)! ولأول مرة فى تاريخ العدالة ينحاز قاض لتيار سياسى بعينه أو يأخذه هواه لتزوير معتقداته من أجل شخص ما، لترتعش يداه فى اتخاذ القرار ويختل ميزان العدالة فتساقطت قيم الأخلاق تحت أقدام دولة الباطل.
أصبح من البديهى اليوم بعد البدء فى محاكمات محمد مرسى وعصابته أن القُضاة إما واقعين تحت تهديد وإما أنهم متعاطفون مع شرعية الرئيس الخائن.. وفى كلتا الحالتين يبدو أن العدالة قد خلعت العصابة من فوق عينيها.
نعم.. من حق القاضى أن ينسحب من القضية إذا ما استشعر الحرج، لكن من حق الوطن علينا بالمثل أن نؤازره وقت الشدة وأن نفتديه بحياتنا إذا ما اضطرتنا الظروف..
وكما أنه من حق القاضى أن يستشعر الحرج، فمن حقهم أيضا أن يستخدموا سلطتهم فى طرد المتهمين خارج الجلسة إذا ما مارسوا أى أعمال بها تجاوز.. أو معاقبتهم بما يتراءى لهم لمنع السيرك الذى ينصبه الإخوان كل جلسة فى قفص الاتهام..
فحين قررت هيئة المحكمة التى تنظر قضية حازم صلاح أبوإسماعيل حبسه لمدة سنة مع الشغل وذلك لتطاوله على هيئة محكمة جنايات القاهرة التى كانت تنظر قضية تزويره مستندات والدته.. وبمجرد النطق بقرار حكم حبس حازم صلاح أبوإسماعيل قال أبوإسماعيل للقاضى باستفزازه وبلاهته المعتادة: "حكمك جه فى وقت هايل"..
وفسر نشطاء كلام أبوإسماعيل على أنه يشير الى اقتراب 25 يناير 2014 وبأنه ينتظر أو يتخيل أن هناك ملايين سوف يخرجون للميادين والشوارع ويتظاهرون ضد حكم حبسه! (ويا حبة عين مامته ولا الهوا.. وزى ما كان إمبارح "لازم حازم" بقى النهارده "مش لازم حازم خالص")!.
إن تعالى أصوات المتهمين فى المحاكمة وهتافهم ضد هيئة المحكمة الموقرة، وإقامتهم الصلاة داخل القفص، ورفعهم علامة رابعة، فقرة فى برنامج السيرك سمحت به هيئة المحكمة، لكنها فقرة رديئة مبتذلة يجب أن تتوقف فورا.
كما يجب تخصيص دائرة خاصة لمُحاكمة قيادات الإخوان وإصدار أحكام سريعة قاطعة ضد هذه العصابة، ومواجهتهم بتهم قاطعة حقيقية لها أدلة تدينهم بحق حتى تنتهى قصتهم، وحتى أيضا لا تنتهى قصتهم نفس نهاية قصة عصابة الرئيس مبارك حين تم اتهامهم بتهمة هدايا الأهرام وقصور شرم الشيخ (يعنى الناس زعلانة علشان طلعوا براءة وإحنا كنا بنحاكمهم علشان خدوا أجندة وقلمين رينولدز من مؤسسة الأهرام!)..
ظهورهم بالمحاكم كل يوم إطلالة لا فائدة منها وتكلفة تتحملها الدولة بلا سبب مقنع..
وكما استشعر بعض القضاة الحرج بالأمس.. أتمنى أن يستشعر كل القضاة اليوم مسئولية التصدى بالعدل لإرهاب عصابة الإخوان.