رحل أحمد فؤاد نجم. شاعر النضال والثورة الذى ألهم أجيالا بقصائده وحياته الطويلة العاصفة، من سنوات السجن والفقر إلى سنوات الشهرة والمجد فى أحضان مريديه وعشاقه. فيما يلى سبعة مشاهد قصيرة وسبعة مقاطع من قصيدة طويلة كان اسمها أحمد فؤاد نجم. المشهد الأول- ميدان «التحرير» – نهارا
أحد الأيام الأولى من شهر فبراير 2011. فى عز أيام الثورة المصرية. مطر خفيف يتساقط على الميدان. جموع المعتصمين يتضاحكون ويتفاءلون بالمطر. إحدى الفرق الغنائية الشبابية تحاول الاستمرار فى العزف والغناء. يغطون آلاتهم الموسيقية القليلة من المطر والرطوبة التى أثرت على الأوتار.
صور شهداء ثورة يناير تجمعت فى صورة كبيرة تحولت إلى ملصق كبير الحجم ونشرتها إحدى الصحف.
تتهادى عبر الميكروفون قصيدة أحمد فؤاد نجم:
«صباح الخير على الورد اللى فتح
فى جناين مصر
صباح العندليب يشدي
بألحان السبوع يا مصر
صباح الداية واللفة
ورش الملح فى الزفة
صباح يطلع بأعلامنا
من القلعة لباب النصر»
يتجمع الناس حول مصدر الصوت. صورة الشهداء فوق الرءوس. تختلط الدموع برذاذ المطر. تتحول الأغنية على الفور إلى أجمل ما يتغنى به الثوار عن يناير وشهدائها.
فى الميدان تحولت قصائد نجم وأغانى الشيخ إمام إلى أناشيد رسمية للثورة، جنبا إلى جنب مع بعض أغانى شادية وأغنية «حدوتة مصرية» من فيلم يوسف شاهين وقليل من الأغانى الأخرى.
أكثر مشهد مثير للعواطف...تجمع الشباب والكبار من كل الفئات والطبقات. الملتحى بجوار غير المحجبة، والناصرى بجوار الليبرالى، والمثقف بجوار أبناء الشوارع، يغنون معا..كل هؤلاء يعرفون أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. نجم هو الشاعر بالمعنى القديم للكلمة، صوت الشعب والبسطاء وليس النخبة.
بعد قليل يصل أحمد فؤاد نجم بشحمه ولحمه إلى الميدان. تثور الحناجر والقلوب. يتجمع العشرات حوله، فيصاب الشيخ الثمانينى المريض بالإرهاق والإغماء ويحمله الأصدقاء ليرتاح فى دار «ميريت» لدى الصديق محمد هاشم، قبل أن يساعدوه على العودة إلى البيت.
المشهد الثاني- ميدان التحرير – مساء – فلاش باك- بداية التسعينيات
بعض الأحزاب السياسية تقيم احتفالا ما فى الميدان أمام مقهى وادى النيل. المرة الأولى التى أشاهد فيها الشاعر أحمد فؤاد نجم رأى العين. أسطورة تسير على قدمين. تطالب الأصوات ببعض الأغانى المعروفة «مصر يا أمة يا بهية...يا أم طرحة وجلابية...الزمن شاب وانتى شابة..يا أم طرحة وجلابية».
يشدو نجم ببعض قصائده...تتعالى الضحكات والصرخات تطالب بالاستماع إلى قصيدة «البتاع»...يتغنى نجم:
«يا للى فتحت البتاع
فتحك على مقفول
لأن أصل البتاع
واصل على موصول
فأى شيء فى البتاع
الناس تشوف على طول
والناس تموت فى البتاع
فيبقى مين مسئول؟»
تتعالى الضحكات...والصرخات. نجم فى عز حيويته سعيد بقدرته الهائلة على جذب الناس حوله وإبهارهم بقصائده الجريئة.
المشهد الثالث- ميدان التحرير- نهارا- الذكرى الأولى لثورة يناير
يتجمع عدد كبير من القوى المدنية فى أكبر مظاهرة ضد المجلس العسكرى والتيارات الإسلامية التى استولت على الحكم فى غفلة من الثوار والزمن. الانقسام الآن بات واضحا وحادا بين مظاهرات «قندهار» بلونيها الأبيض والأسود، التى يسود فيها لون الجلاليب البيضاء والنقاب والذقون والأعلام السوداء، وبين مظاهرات القوى المدنية الممتلئة بالمثقفين والنساء بألوانها الزاهية وموسيقاها المرحة.
مزيد من أغانى نجم تحولت إلى أناشيد للثوار:
«كل ما تهل البشاير
من يناير كل عام
يطرد الخوف والظلام «
وأغنية أخرى أكثر حماسية تصلح لأيام المعارك والغاز المسيل للدموع:
«الجدع جدع
والجبان جبان
بينا يا جدع
ننزل الميدان».
المشهد الرابع- نادى العاصمة فى جاردن سيتي- نهارا- شتاء 2012
أقوم بإعداد برنامج مع الإعلامية الشهيرة سلمى الشماع. نجم هو ضيف حلقتنا الجديدة. ألتقى به مبكرا. يجلس على منضدة عليها لوحة شطرنج يلاعب أحد الزبائن. يبدأ فى السخرية من خصمه. ألاحظ أنه كسبه بسهولة. أفاجأ بأن الشاعر الذى قضى عمره فى المعتقلات والعمل السياسى يجيد لعب الشطرنج. أطلب منه أن يلاعبنى. بالنسبة لى الشطرنج كان عملى ونشاطى الأول فى الحياة لسنوات طويلة. كنت لاعبا محترفا إذا جاز القول. بعد قليل يتحول الدور لصالحى مما يصيبه بالغيظ الشديد تجاهى. أتعجب أكثر من مقاومته الشرسة والأفخاخ التى ينصبها ومستواه المرتفع بالنسبة للاعب هاو. يتجلى أمامى ذكاء نجم وموهبته الفطرية التى طالما سمعت عنها. أنه شخص خارق للعادة بالفعل.
فى الثمانينيات من عمره، لا يزال أحمد فؤاد نجم فى غاية الحيوية والحضور.
المشهد الخامس- مساء- دار ميريت- بداية صيف 2013
الصديق محمد هاشم دعانى لحضور جلسة الصلح التى عقدها بين الشاعرين الكبيرين أحمد فؤاد نجم وسيد حجاب. عاش نجم ومات صعلوكا كبيرا على سجيته. سريع الخصومة طيب القلب لا يجيد تزويق الكلمات ولا المعارك...كثيرا ما تورط فى مهاجمة أناس يحبهم أو يعرف قدرهم...وحين يهاجم أحدا فهو لا يجيد استخدام الكلمات الدبلوماسية. خلافه مع سيد حجاب نشأ من تصريحات أدلى بها اعتبرها حجاب سبا وقذفا وقام برفع دعوى قضائية ضد صديقه اللدود...الاثنان، خاصة نجم، تحولا إلى شيخين كبيرين لا يليق بهما مثل هذه الخصومات الصبيانية. يدرك الاثنان ذلك، ويتصالحان من القلب. لن يبقى فى النهاية سوى الذكريات الطيبة والقضايا الوطنية التى بذل الاثنان عمرهما فى سبيلها. يتغنى كل منهما بواحدة من قصائده. يشدو نجم:
«يعيش أهل بلدي
وبينهم ما فيش
تعارف
يخلى التحالف يزيد
تعيش كل طايفة
من التانية خايفة
وتنزل ستاير بداير وشيش
لكن فى الموالد
يا شعبى يا خالد
بنتلم صحبة
ونهتف...يعيش
يعيش أهل بلدى».
إنها القصيدة التى تحولت إلى أغنية بديعة للشيخ إمام قام الموسيقار يحيى خليل بتحويلها إلى أغنية «جاز» حديثة لا تقل روعة.
أستمتع بيوم أو اثنين بعيدا عن نار القاهرة وعنفها. تجمعنى جلسة بأصدقاء من الناشطين والمثقفين على أحد المقاهى المطلة على البحر. تبدأ الشمس فى لم إشعاعاتها القليلة والاستعداد للرحيل. بالقرب منا يغنى بعض الشباب قصيدة نجم «يا أسكندرية»، أجمل ما قيل عن المدينة التى تغنى بها الشعراء:
المشهد السابع- داخلي- ليلا- الحاضر- أمام الكمبيوتر على الفيسبوك
أحب نوارة نجم. أكن إعجابا شديدا بموهبتها فى الكتابة التى أخذتها عن أبيها وعن أمها صافيناز كاظم، والأهم أنها ورثت شجاعتهما معا. نلتقى من حين لآخر فى المظاهرات أو بيوت الأصدقاء.
ينقل أحد الأصدقاء عن نوارة نجم «تويتة» تستنجد فيها بالأصدقاء «أبى يحتضر». ينتابنى الهلع على الاثنين. أفتح ديوان نجم وأقرأ من قصيدته «نوارة»:
«نوارة بنتى النهاردة تبقى
بتخطى عتبة
ليوم جديد يا رب خلي
يارب حافظ يا رب بارك
يا رب زيد يا رب كبر
نوارة تكبر
وتبقى أكبر
فى كل عيد
لأ كل جمعة
لأ كل يوم
لأ كل ساعة
لأ كل لحظة
تنول وتحظى
وتزيد نباهة
وتزيد ملاحظة
وتحظى مصر السعيدة بيهم
ويبقوا ليها
وتبقى ليهم»
رحل نجم على ضوء الفجر الذى طالما كان أحب الأوقات إليه وأكثرها استخداما مجازيا فى أشعاره التى تتنبأ بالثورة والانتصار...على نهاية القصيدة تتجمع كل الذكريات على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، وتختلط بذكريات نجم التى كتبها فى مذكراته «الفاجومى»، وأحاديث من عرفوه. ذكريات تفوق القدرة على الاحتمال.