طالما وُجهت الاتهامات إلى التقارير التي تتناول جرائم العنف في الصحف، والمشاهد العنيفة في التلفزيون والأفلام السينمائية، باعتبارها مسؤولة عن نشر الأفكار المشجّعة على الانتحار، وإيذاء النفس بين الشباب والمراهقين، لكن الوضع تغيّر منذ سنوات قليلة مع تركز اللوم على الإنترنت، نظراً للنمو السريع في معدلات استخدامها، وابتعادها النسبي عن الرقابة، إضافة إلى ما يشعر به الشباب من حرية أثناء المشاركة في المنتديات وغرف الدردشة الإلكترونية. ويبدو أن بعضاً من هذه الاتهامات حقيقي، إذ كشفت دراسة أجراها باحثون في جامعة «أوكسفورد» البريطانية، عن وجود علاقة قوية بين منتديات الإنترنت، وزيادة خطر إقدام الشباب على إيذاء أنفسهم أو الانتحار.
ومع ذلك، رأت الدراسة أنه لا يمكن إغفال ما توفره الإنترنت من دعم نفسي، وقنوات اتصال تُخفف من الشعور بالوحدة لدى الأشخاص المنعزلين اجتماعياً.
واستهدفت الدراسة تحليل الأدلة المتوافرة حتى الآن عن التأثير المحتمل للإنترنت في زيادة خطر الانتحار، وإيذاء النفس لدى الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً، وذلك من خلال تحليل 14 دراسة تناولت استخدام الشباب للإنترنت.
وأبرزت الدراسة عدداً من الأضرار الناجمة عن استخدام الإنترنت، تتضمن دورها في تطبيع علاقة الشباب بمسألة إلحاق الأذى بالنفس، الذي يتخذ صوراً مختلفة، منها إحداث جروح في الجسم، أو تناول مواد سامة من دون قصد الانتحار، كما توفر الشبكة الوصول إلى محتوى يتعلق بالانتحار وأساليبه، فضلاً عن صور ومشاهد العنف المفرط.
ولا يعني ذلك أن استخدام عموم الشباب للإنترنت يُسهم في إقبالهم على إيذاء أنفسهم، أو يدفعهم للتفكير في الانتحار، بل إن دراسة «أوكسفورد» ركزت فقط على تأثير الإنترنت في الشباب المعرّض لهذا الخطر ويستخدم الإنترنت للبحث عن مسألة إيذاء النفس، وبحثت في ما إذا كان المحتوى المنشور قد أسهم في إقدامهم على ذلك فعلياً.
وأشارت واحدة من الدراسات التي شملها التحليل إلى أن نسبة 59% من الشباب الذين أجريت المقابلات معهم، بحثت عن الانتحار عبر الإنترنت، كما أظهرت أن من بين 15 مراهقاً أقدموا على إيذاء أنفسهم، بحثت نسبة 80% منهم عن الإيذاء الذاتي عبر الإنترنت.
كما تشمل الآثار السلبية لاستخدام الإنترنت استغلال ما تتيحه من أدوات اتصال في مضايقة الآخرين، مثل الرسائل غير اللائقة، وممارسة الاحتيال، وبث رسائل الكراهية، وهي ممارسات شائعة في أوساط المراهقين.
وشهد أغسطس 2013 حادثة فتاة بريطانية في
ال14 من عمرها تُدعى (هانا سميث)، قتلت نفسها شنقاً بعدما تلقت رسائل مسيئة من خلال أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
وأعُلن في الشهر نفسه، أن واحداً من كل خمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين 11 و16 عاماً مرّوا بتجارب سلبية ومضايقات أثناء استخدامهم للإنترنت، وفق بحث أجرته «الجمعية الوطنية لمنع القسوة ضد الأطفال» الخيرية المعنية بالدفاع عن قضايا الأطفال في المملكة المتحدة. وعلى الرغم من القلق الذي تُثيره التأثيرات السلبية، أشارت الدراسة إلى تأثيرات إيجابية، مثل توفير بعض المنتديات للدعم النفسي، وآليات للتعايش ومواجهة المشكلات، كما يساعد التفاعل خلالها على منح الشباب الشعور بالقبول والألفة، وربط الأشخاص المنعزلين اجتماعياً، وتخفيف شعورهم بالوحدة، وجميعها من الأسباب المساعدة على تسكين الرغبات الضارة، ووُجدت أمثلة على إسهام بعض المنتديات في تشجيع الشباب بعضهم بعضاً على اتباع سلوكيات إيجابية، وتبادل النصائح حول طلب المساعدة، والتهنئة بالنجاح في مقاومة الرغبة في إيذاء النفس.
وهو ما اتفق معه جو فيرنس، من جمعية «سامارايتنز» أو «السامريون» المعنية بنصح ومساعدة من يعانون الضيق واليأس، والمعرّضين لخطر الانتحار، وقال إنه «ينبغي الإقرار بلجوء كثير من الأشخاص إلى المنتديات التي تناقش الانتحار، وإلى غرف الدردشة، لمناقشة مشاعرهم عن حالة الضيق واليأس التي يعانوها دون الإفصاح عن هوياتهم، ويتضمن ذلك أفكار حول الانتحار.
وتُظهر هذه التجارب الاستفادة مما تتيحه الإنترنت من إمكانية المشاركة، والنقاش دون الاضطرار إلى الإعلان عن الشخصية الحقيقية». وعن ذلك، قال فيرنس إنه «يمكن لهذه المناقشة أن تؤثر بالإيجاب في الشخص، فربما يُعبّرون عن مشاعر قد لا يكشفون عنها على الإطلاق لأي شخص خارج الإنترنت».
واقترح فيرنس التفكير في سُبل للاستفادة من الإنترنت، قائلاً: «بدلاً من التركيز في المقام الأول على أساليب منع مثل هذه المواقع ومراقبتها، ينبغي علينا التفكير في الفرص التي توفرها الإنترنت للوصول إلى الأشخاص الذين يعانون ضائقة نفسية».
وفي ما يتعلق بالدور المزدوج للإنترنت، قال المؤلف الرئيس للدراسة، البروفيسور كيث هاوتون، إن «الاتصالات عبر الإنترنت والوسائل الإلكترونية الأخرى يُحتمل أن تلعب أدواراً في كلٍ من الإسهام في السلوك الانتحاري لدى الشباب، وكذلك في منعه».
ولذلك اعتبر هاوتون أنه ينبغي الاستفادة من الإنترنت لتطوير طرق للتدخل والعلاج تعتمد عليها، وقال: «إن الخطوة التالية هي الانتقال لتطوير تدخلات علاجية تستخدم هذه القنوات للاتصال، خصوصاً بهدف الوصول للأشخاص الذين لا يلتمسون مساعدة الخدمات السريرية».
وحملت الدراسة، التي نُشرت في مجلة «بلوس وان» العلمية، عنوان «قوة الإنترنت: مراجعة منهجية للدراسات التي تناولت تأثير الإنترنت في إيذاء النفس والانتحار لدى الشباب».
واعتبرت الدراسة أن طابع التجدد الذي يُميز الإنترنت يُخضعه لتأثير المستخدمين، وبسبب سهولة الوصول إليه وتزايد معدلات استخدامه، فإنه يمكن أن يُمثل أداة للتدخل المناسب، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون للمنتديات التفاعلية التي يُديرها متخصصون في الرعاية الصحية دور في توعية الشباب، ودعمهم للحد من مخاطر إيذاء النفس. ويرى البروفيسور بول مونتغمري، أحد المساهمين في الدارسة، أن حل المشكلة ليس ببساطة اتخاذ قرار إغلاق مثل هذه المواقع، إذ تبقى أسئلة متعددة حول كيفية السيطرة عليها، وما إذا كان الحل يكمن في إغلاقها، وكيفية تحديد المواقع الضارة من غيرها، ومنع إعادة ظهورها في مكان وعنوان جديد.
واقترحت الدراسة أن يتضمن الكشف السريري للشباب المعرّضين لخطر الانتحار، أو إيذاء النفس، أسئلة مفصّلة حول المحتوى الذي يتعرّضون له عبر الإنترنت، وهو ما يُشير إلى أن التعرّض لمواد تعرض إلحاق الأذى بالنفس عامل رئيس لدفع الأشخاص إلى تقليد هذه الحوادث، كما يمكن أن يؤدي التعرّض لمثل هذه المواد بجانب المحتوى المتعلق بالانتحار عبر الإنترنت، إلى اتباع الشباب لأساليب أكثر خطورة لإيذاء أنفسهم.