في سنوات درسنا وتحصيلنا الجامعي فَجِئَنا أبو حيان التوحيدي بروائعه التي تزهو بها حضارتنا العربية والإسلامية وتسمو على الخافقين,وكانت آيات ذلك وعنوانه الأهم رائِعتاه (الإمتاع والمؤانسة والمقابسات ) فقلب عقولنا رأساً على عقب,لقد أذهلنا فيهما تدفق فكرى وعمق تحليلي ليس له نظير. والتوحيدي عبقري فذ أنكره زمانه ,زمان التناقضات الحادة وبدايات البلاء الأعظم الذي نشأ وبدا سوسا ينخر بدأب وصبر لا يريم , في القرن الرابع الهجري، قرن التناقضات، الذي بدأ فيه التدهور السياسي للخلافة العباسية، وانقسامها إلى دويلات صغيرة، و شاعت فيه ألوان من السقوط الأخلاقي كأثر من آثار فساد الحكم على المجتمع، وأتت كتابات التوحيدي صدى لهذا العصر ,الذي قاد المعتزلة النهضة العقلية الفكرية العربية الكبرى إبانه ولكنهم ولسوء الحظ وعِظم البلاء تغافلوا عن نقد السلطة التي آمنت بهم وبدورهم ,حينما اشتطت في اضطهاد معارضيهم من الأشاعرة والحنابلة وغيرهم فكان سكوتهم فتحا لباب من الشر لم ُيسد, وثُلْمَةً وثغرةً وجرحاً في خاصرة أمتنا الفكرية والسياسية استُبِيحت به الحرمات وُأهدرت الحريات وما برحت, واستُذِلت الكرامات وما انفكت, وُكبتت العقول وما فَتِئت, ثم دارت الدوائر وتقلب الدهر بالمعتزلة والدهر كعادته ُقًلب متين كيدُه, لا ُيؤمَن مكره , سرمديةً مداولته الأيام بين الناس, فاصطلوا بنفس الكأس واكتوى عقلاء الأمة ومفكروها وغُيٍٍب العقل العربي وطال به الغياب , وبات ذلك جرحا ثخينا لا يندمل . .... كان أبو حيان التوحيدي صريحا فى وصفه حاله المزرية بين أهل زمانه وسعيه لنيل ما يرفع به خسيسته بين الناس ويقهر ضعف حاله ووحشى فقره, لقد اصطلى بنارين ذواتى لهب, نار لومه لنفسه ونار لوم غيره واستهزائهم وتقريعهم وشماتتهم فيه ونار إحساسه بفشله واستفحال عوزه وخيبة سعيه, عندها عاش وحيدا منبوذا غير مرحب به بين الفقراء رفقاء حاله وواقعه, و بين العلماء الذين استنكروا خارق موهبته ووسيع مداركه وذكرتهم ألمعيته وتوهجه ودفق معارفه بقلة بضاعاتهم وُهزال حالهم وساذج معارفهم وكشف عورات نفاقهم , وضاق بهم قرعه آذانهم بقضايا الحرية والعلم الأصيل و الدور الواجب للمثقف الرائد فاستنكرته مجالسهم وصمت عنه آذانهم , مثلما كان غير مرحب به بين الوزراء والكبراء الذين ركلته بدورها مجالسهم وتقاذفته عيونهم وأقدامهم وألسنتهم واستمرأت التسلى بهزاله وضيق حاله وغرابة أقواله وغموض مفاهيمه.
على هذا صار الحال بالتوحيدي وبأمثاله وأضرابه وأترابه ولِداته ومريديه والسالكين طريقته, فأولئك المغبونون المقهورون الملقَون إلى الحواشي وزوايا الإهمال لا لجرم ارتكبوه ولا لهمم تقاعسوا عنه ولا لضعف قدرة أو ضحالة علم أو سذاجة فكر, أولئك ما أكثرهم في أمم ضحكت من جهلها الأمم, لقد كان مصير الرجل وما لاقاه إيذانا بولوج أمتنا أنفاقا ثُسودا غائِراتٍ ومتاهاتٍ وغياباتٍ ظلت ُتثقِل كاهلها وتتعثر بها خطاها ولا تستفيق من بلائها إلا إلى فادح جديد من البلايا والرزايا..لقد اكتوى التوحيدي بمثل ما اكتوى به أمثاله ممن ابتلاهم الله بنصاعة العقل ورحابة الآفاق وامتلاك المواهب و المنح الإلهية وبما جعله الله به فردا فذا فريدا , وبات ذلك مجلبةً للألم والضير ومدعاةً للاضطهاد والإقصاء والإهمال, وتلك آفةٌ من آفات الفكر العربي المسلم ونماذج مكرورة جاثمة مستدامة, أوسعت أمتنا كيدا وتجويعا وتلويعا وتفزيعا وتحقيرا وإهمالا في ظل انقلاب وانتحار عادل الموازين وصحيح المعايير, وفى هذه الدراسة إلى تحرى ذلك والوصول إلى مغباته ومعقباته...,وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...